منى أبوزيد تكتب: ..هناك فرق .. الشعور نحو الخراب..!

منى أبوزيد تكتب: ..هناك فرق .. الشعور نحو الخراب..!
“نحن محكومون بالأمل”.. سعد الله ونوس..!
في كل حرب، ثمة لحظات فاصلة لا تحدث على الجبهات بل في قلوب الناس، لحظات تنتهي فيها المعارك على الأرض، لتبدأ معركة أخرى صامتة، موجعة، وطويلة بين رحابة التفكير الرغائبي وجحود الواقع المعيش..!
في السودان جاءت هذه اللحظات عندما خرجت مليشيا الدعم السريع من البيوت لكنها لم تترك خلفها حياً يمكن أن يُعاد إليه، بل تركت أنقاضاً، بيوتاً عارية عن الأبواب والنوافذ، أسلاكاً كهربائية منزوعة من الجدران، خزانات مياه محطمة، سقوفاً آيلة للسقوط، وجرائم عنصرية بغيضة سوف تبقى معلقة لعقود فوق مشاجب الذاكرة الوطنية..!
لم تكن البيوت مجرد جدران وسقوف، بل ذاكرة صوت الماء في المواسير، وصوت المآذن وصياح الباعة، وصدى الضحك في المجالس، ورائحة الأمهات في المطبخ. والآن وقد خرج الدعم السريع من الأحياء لم تخرج الحرب من البيوت بعد..!
خرج العدو، لكن دخلت الفوضى وسكنت محلّه، سرقة كاملة لكل ما يمكن أن يربط الإنسان ببيته وبالحياة، من الأسلاك إلى المفاتيح، من الأبواب إلى الثلاجات، من الحنفيات إلى الصور في الإطارات..!
خرج العدو، لكن لا شيء في الحي يشي بأن الحياة ستعود غداً، أو بعد غد، صار الوطن موجوداً فقط على خرائط القلب، فيما الواقع أشبه بمنفى داخلي طويل الأمد..!
رواندا خرجت من أفظع إبادة جماعية في تاريخ أفريقيا، لم يكن هناك بيوت ولا طرق ولا دولة، واليوم رواندا واحدة من أسرع الاقتصادات نمواً في أفريقيا، ومثال يُدرس في الجامعات عن مصالحة وطنية ناجحة..!
الصومال التي كانت مرادفاً للفوضى والانهيار، عادت لتبني مؤسساتها وتستقطب استثمارات وتعيد أبناءها من الشتات. لم تنتهِ الحرب بين ليلة وضحاها، لكن إرادة الناس انتصرت، لا برفع السلاح بل برفع سقوف الأحلام..!
السودانيون ليسوا استثناء، نعم الحرب قاسية والدمار ممنهج، لكن هناك شعب على هذه الأرض لم ينسَ كيف يضحك رغم كل شيء، نحن الذين اخترعنا الضحك في لحظات العزاء، والولادة في زمن الحصار، وشرب الشاي في الظلام. نحن الذين رمَّمنا جدران الأحزان بالحكايات، وكتبنا عليها أسماء من لم يعودوا كي لا ننسى..!
العودة إلى الديار ليست فقط إعادة إعمار، بل هي تحدٍ أخلاقي أمام من أراد لنا الفناء، وكل بيت تدب فيه الحياة هو صفعة في وجه مشروع الفناء الذي أراد أن يقتل فينا معنى الإنتماء..!
صحيح أن العودة إلى البيوت صارت حلماً قد يتأخر، لكنها لا تتأخر عبثاً، هي تختبرنا، تختبر مدى وفائنا لما كنا عليه، ومدى شجاعتنا في أن نعيد بناء ما يمكن أن نكون عليه..!
فلنعد ولو على هيئة أمنيات، ولنخبر كل أطنان الركام والخراب بأننا عائدون، لا لنمحو آثار الحرب فحسب، بل لنصنع من آثارها بلداً آخر، يشبهنا أكثر، وأمة تعرف تماماً كيف تجتاز وتتجاوز!.
munaabuzaid2@gmail.com
المصدر : صحيفة الكرامة