مقالات

 منى أبوزيد تكتب: ..هناك فرق .. التجهيل كسياسة متعمدة..!

 منى أبوزيد تكتب: ..هناك فرق .. التجهيل كسياسة متعمدة..!

 

 

*”دعاوى التهميش التي لا تمتلك أدواتها تتحول إلى لعبة في أيدي من يريدون التشويش ويديرون التجهيل، للوصول إلى السلطة”.. الكاتبة..!*

 

الثورات لا تُفشلها أخطاؤها، بل حفلات اللهو التي تُقام فوق جثث الأسئلة الحقيقية. والخطر الحقيقي ليس في أن يصعد خطاب الهامش، بل الخطر هو أن يهبط خطاب المركز إلى مستوى الفوضى، إلى الحد الذي يسمح لبعض أصحاب الأغراض بمحاولة إقناعنا بأننا – إبان ديسمبر – كنا نعيش ثورة ثقافية..!

بعد ثورة ديسمبر، بدأ صعود مصطلح ثقافة الهامش في السودان ينتشر “بدعوى أن في ذلك استعادة مؤجلة لحق طبيعي في الاعتراف بالوجود”، ومن يسمع ذلك يظن أن نافذةً ظلت مغلقة طويلاً قد فُتحت فجأة، لتدخل منها أصوات مختلف القبائل والإثنيات في الأطراف، بثقافتها العميقة، وموسيقاها المتنوعة، وذاكرتها المليئة بالأوجاع والحكمة. لكن الحقيقة كانت غير ذلك..!

ذلك الصعود كان موجهاً وله أغراض، يستعير لأجلها اسم الهامش دون روحه، ويستثمر في الحديث عن مظلوميته دون فهم جذوره، مكتفياً بإطلاق صرخات عشوائية مبتذلة في وجه المركز، ليس بحثاً عن العدالة، بل بحثاً عن غنائم سلطوية بأسلحة العنصرية المضادة..!

وهكذا تحول جزء مهم من الخطاب العام إلى نسخة مشوّهة من الحقيقة “هامش يطالب بحقوقه عبر افتعال الضجيج وليس عبر افتراع قنوات للوعي”، وفي ظل هذا الالتباس، ضاعت الحدود بين الاحتجاج والابتذال، وبين المطالبة بالاعتراف بالتقصير وتحويل الهوية إلى أداة صراع فارغة من المعنى..!

بعد الثورة، لم يكن صعود صوت ثقافة الهامش مجرد “حالة فنية” أو موجة اجتماعية عابرة، بل كان الأمر كزلزال بطيء يبدأ باهتزاز خفيف في اللغة، ثم يمتد إلى الأفكار والقناعات، وأخيراً يصل إلى السلطة والهوية والمركز نفسه..!

فجأة أصبحت أغاني جنوب الحزام ومصطلحات على غرار “الراسطات والسانات والواقفين قِنا” جزءاً من أسلوب المشهد العام، ليس في الأطراف وحدها، بل في قلب الخرطوم، في صفحات الفن، وعناوين السوشال ميديا، وفي معارك الإقصاء والتخوين اليومية التي لا تنتهي ..!

هذا الصعود – بطبيعته – امتزج برغبة البعض في استثمار الهامش كرمز جاهز للثورية، وكأن الانتماء للثورة يُكتسب بالكلمات العالية لا بالمواقف الفعلية. وكأن الهامش – بتاريخه وثقافته – قد أصبح مجرد أداة في يد المركز، وليس فضاءاً حقيقياً أنتج فناً راقياً وقيماً اجتماعية أصيلة، قبل أن يتم اختزال كل ذلك لاحقاً في صور التمثيل الأكثر ضجيجاً..!

ثم جاءت فترة صار فيها الحديث عن العنصرية والقبلية والطبقية مرتبطاً – وبكسلٍ فكري مؤذٍ – ببعض أشكال الفن الهابط التي نُسبت إلى “ثقافة الهامش” ، وكأن الهامش لا يُرى إلا من خلال ثقب الباب، أو زاوية الإثارة، وليس من عمقه الحقيقي الذي يحمل تراثاً وحكمةً، وطبقات من التاريخ..!

ثم ازدادت الفوضى الاجتماعية وأصبح الاحتشام علامة “كوزنة”، وصار التحرر مرادفاً للتعري والسخرية من الكبار، واعتُبرت الفوضى تقدماً، وكأن الثورة قامت لتأديب المجتمع لا لتحقيق العدالة التي خرج لأجلها بسطاء الناس إلى الشوارع..!

فهل كان ما شهدناه جزءاً من الحراك الطبيعي الذي يعقب أي ثورة – حيث تختلط الأصوات ويتزاحم الغبار قبل أن يصفو الهواء – أم كان كل ذلك صناعةً مُتعمدة هدفها إلهاء المجتمع بالضوضاء، بعيداً عن الأسئلة الحقيقية “من يحكم وكيف يحكم ولماذا تنهار متنون الدولة بينما ينشغل الناس بتعريف الهوامش” ..!

عندما يُوضع شخص غير مناسب في منصب لا يستحقه، فإنه عوضاً عن أن يخجل، يُحيط نفسه بمن هم أقل قيمةً منه، ليبدو الأكثر قيمة بينهم. وهكذا يتكاثر التافهون حول السلطة كما تتكاثر الظلال حول الضوء الخافت..!

ولأن استمرار الرداءة مرهون بإقصاء الجيدين، يبدأ العمل المنظم: تشكيك في الكفاءة، تجريم اجتماعي، تهميش سياسي، وتسفيه مهني. وبهذه الطريقة لا يتم تضخيم الصغار فقط بل يتم إقصاء الكبار..!

الفرق كبير بين الجهل كحالة تُشْفَى بالتعلم، وبين التجهيل كسياسة تُدار بوعي كامل يتمظهر في طببعة الفوضى المنظمة التي لا تكون مجرد ذوق رديء، بل مشروع هادم ومتكامل..!

لا شك أن السودانيين سوف يحتاجون بعد انتهاء هذه الحرب إلى عقد اجتماعي اجتماعي جديد – يقوم على الأنسنة قبل الجغرافيا، وعلى السعة قبل الشعارات، وعلى التنوير قبل الضوضاء – عقد جيديد يعيد تعريف مصطلحات رغائبية وحمَّالة أوجُه، مثل المركزية والتهميش!.

 

munaabuzaid2@gmail.com

 

 

المصدر: صحيفة الكرامة

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى