منى أبوزيد تكتب: ..هناك فرق .. إلياذة الصعود على أكتافهم..!

منى أبوزيد تكتب: ..هناك فرق .. إلياذة الصعود على أكتافهم..!
*”في هذا الكتاب سيرة رجل نبيل وعالم جليل، بدأت بحكاية أم تصلي في الخفاء، وأب يخاف على المصحف من الغبار”.. الكاتبة..!*
البروفيسور قرشي محمد علي طبيب، وعالم أكاديمي مرموق، ومفكر تربوي، وهو من أبرز رموز التعليم العالي في السودان، وله منجزات واسعة الأثر في ميادين الطب والإدراة والتعليم. لكنه اختار أن يكون عنوان الكتاب الذي يلخص رحلته ورسالته بعنوان “على أكتافهم .. سيرة ذاتية وتأملات”…!
الكتاب وثيقة اجتماعية نادرة تقدم تعريفاً خاصاً لفكرة الترقِّي في المجتمع السوداني، من التعليم التقليدي في الخلوة إلى التنوير الأكاديمي الحديث، ومن الكفاح الفردي إلى الوعي الجمعي. وعبر ذاكرةٍ مشحونة بالحنين والذكاء يرسم صورةً للجيل الذي صعد من مشروع الجزيرة إلى قاعات الجامعات دون أن يملك ترف الشكوى، لكنه امتلك شرف الصبر..!
يكتب البروفيسور قرشي بلغة شفافة متصالحة مع واقعها، ولا يتكلف البلاغة، بل يكتفي منها بما يليق بالصدق، فاللغة عنده ليست أداة تجميل بل قناة استبصار. وإذا كانت السيرة عند طه حسين اعترافاً بمقدرات الذات، فهي عنده اعترافٌ بجميل الآخر..!
الكتاب يذكر من سبقوه وجايلوه وحملوه يوماً على أكتافهم. ورسالته الرئيسة في تقديري هي “أننا لا نصعد بأنفسنا، بل على أكتاف أولئك الذين تعبوا لكي ننهض، وغابوا كي نُرى”، وأن كل نجاح في السودان مهما بدا فردياً فهو ثمرة جهد جماعي، وأن وراء كل اسم لامع كتفاً ظلت تحمل كتفاً أخرى حتى لا يقع الضوء..!
وهو بهذا الفهم لا يكتب سيرة حياة بقدر ما يفتح نوافذ للوعي على أسئلة الإنسان الكبرى، كيف يصبح العادي استثناءاً، وكيف يمكن لذاكرة مثخنة بالتعب أن تُضيء للآخرين طريقاً نحو المعنى. إنه لا يتباهى بالمجد، بل يُجري حواراً صامتاً بين الجهد والمعنى، بين الإنسان وقدره، بين “الولد” الذي شبَّ في القرية والطبيب والأكاديمي الناجح الذي عاد إلى بلاده ليبني جامعةً مرموقة من الصفر..!
الكتاب في جوهره تأملٌ في فلسفة الوجود، وبين صفحاته يسكن يقينٌ غائر بأن السعادة في الحياة ليست ما نملكه، بل ما نهبه للآخرين، وأن الفضيلة ليست فعلًا أخلاقياً فحسب، بل طاقة خلق تُعيد صياغة التاريخ الشخصي على ضوء الجماعة..!
والمؤلف لا يتحدث عن الأسرة كقرابة دم، بل كجذرٍ غرس الله فيه معنى الصبر. والدته التي كانت تصلي لأجل الجيران مع صلاتها لأجل أولادها، فتُجسِّد فكرة الإيمان الذي يصقله التعب عوضاً عن أن ينال منه. والرجل القروي الحكيم، والده الحصيف الذي كان يخاف على المصحف من غبار الطاولة، فيُجسِّد طُهر النوايا في أصفى معانيها..!
ومن عمق هذه السيرة يمتشق سؤال فلسفي “هل يمكن للإنسان أن يُولد من ذاكرته”؟.الإجابة التي يحملها الكتاب هي “بلى، حين تكون الذاكرة عملاً في سبيل الحياة وليس النوستالجيا”. فالرجل الذي كتب “لقد صعدنا على أكتافهم” لم يكن يطلب الاعتراف به، بل كان يذكِّرنا بضرورة الامتنان، وبواجب الاعتراف بأن حياتنا ليست ملكاً خالصاً لنا..!
هذه المذكرات لم تُكتب لتُعلمنا كيف ننجح، بل لماذا يجب علينا أن نصبر، وهنا تكمن عبقريتها التي تعيد تعريف البطولة، ليس كقوةٍ ضاربة في وجه المستحيل، بل كيقين وصبر جميل على الاستقامة في زمن معوج. ومن يقرأ هذه السيرة يخرج منها بفكرة أن الكتابة نفسها حين تصدر عن صدقٍ روحاني تصبح دعاءاً وفرضاً من فروض الشكر..!
ولهذا سيظل كتاب “على أكتافهم” رمزاً وملمحاً للأمة السودانية نفسها، جيلٌ يمضي، وجيل يصعد، وكلهم يُورِّثون السماء نجوماً من ظلالهم على الأرض!.
munaabuzaid2@gmail.com
المصدر: صحيفة الكرامة





