منى أبوزيد تكتب : أناشيد الإثم والبراءة
منى أبوزيد تكتب : أناشيد الإثم والبراءة
“رب معصيةٍ أورثت ذلاً وانكساراً خير من طاعةٍ أورثت عزاً واستكباراً”.. ابن عطاء الله السكندري .
في مرحلة التسعينيات من تاريخ السعودية المعاصر كان الخطاب الديني ما يزال يميل إلى الترهيب، وكان التشدُّد في أساليب التوعية الدينية هو النهج السائد على خطب الكثير من الشيوخ الذين تركوا التشدُّد ومال نهجهم إلى الوسطية اليوم.
في تلك الأيام كان مدرِّس القرءان في مدرستنا شيخاً ضريراً، وكان تنقُّله بين الفصول يعتمد على أن يمسك هو بطرف عصاته من جهة، بينما تقوم إحدى الطالبات – “ألفة الفصل في الغالب” – بالإمساك بطرفها الآخر. فيكون المشهد كالتالي، الفتاة تمسك بطرف العصا وتتقدَّم الشيخ وهي تغيِّر اتجاه مشيتها، تارة تمشي بالمقلوب ووجهها في مواجهة الشيخ، وتارة تمشي وهي تعطي الشيخ ظهرها، ويدها تمسك بالعصا من الخلف، وهكذا، المهم أن لا تقترب الفتاة من الشيخ أبداً .
وأذكر أن معلمة مادة التاريخ كانت قد تغوَّلت ذات يوم على بضع دقائق من زمن حصة القرءان التي تلي حصتها، ثم جيئ بالشيخ وفتح باب الفصل، فما كان من المعلمة – التي كانت متديِّنة جداً – إلا أن غطت وجهها بيديها في رعب والتصقت بالجدار كقط مذعور وهي تصيح بصوتٍ مرتجف مطالبةً بإخراج الشيخ على الفور. ولئن سألت عن السبب فهو أنها كانت تضع عطراً نفَّاذاً وبالتالي فهي تخشى من أن تتعثَّر حاسة شم ذلك الشيخ الضرير ببعض نفحات عطرها ذاك، فينطبق عليها ما يقوله بعض الشيوخ – بشأن المرأة المتعطِّرة إذا اشتم رائحة عطرها رجل ليس من محارمها – فتكون في حكم الزانية كما أفتى بعضهم .
بطبيعة الحال تغيَّر كل هذا التشدُّد بمرور الوقت بعد هبوب رياح الاعتدال والوسطية في السعودية، إلى درجة صدور قرار بعدم اشتراط إبراز ما يثبت صلة القرابة أو الزواج في حجز الفنادق بعد تفعيل قرار الفيزا السياحية، وإلى درجة تشجيع كرة القدم النسائية، وإلى درجة إعلان الحكومة السعودية عن أنها ملزمة فقط بتطبيق نصوص القرءان الكريم ونصوص الأحاديث المتواترة، وأنها تنظر لحديث الآحاد حسب صحته وظروفه ووضعه، وأنها لا تنظر في الحديث الخبر بتاتًا إلا إذا استند عليه رأي فيه مصلحة، وأنه لا عقوبة عندها على شأن ديني إلا بنص قرءاني واضح أو حديث تنطبق عليه الشروط .
بينما في ذات المنعطف التاريخي تشهد بلادنا لغطاً بشأن اتهامات وجهها شيوخ وأئمة مساجد متشدِّدون لرجل مريضٍ بائس – هو الآن في رحاب الله – بحجة أنه قد مات كافراً، لأنه قد انتحر ملقياً بنفسه من أعلى كوبري. دونما أي مراعاة لطبيعة العلة النفسية المتراكمة أو النازلة العقلية المفاجئة التي أصابته، والتي ترفع عنه التكليف الشرعي وبالتالي تمنع إصدار الأحكام .
وبعيداً عن الأحكام والمآلات فإن مثل هذه الروح الاستعلائية التي تنتهج تقييم البُعد الديني في سلوك الآخر لا تجوز. وهي خطيرة جداً، لأنها أولى لبنات البيئة النفسية التي ينمو فيها التطرُّف الديني المفضي إلى الإرهاب الذي هو في مجمله غرور ديني، يبدأ بثقافة إنكار التديُّن على الآخر، إلى أن ينتهي بإزهاق أرواح الأبرياء باسم الدين .
الخطاب الديني في بلادنا يحتاج إلى “تحرير” بالحذف والإضافة، وتغيير في مواضع التخصيص والتعميم. ولتحرير الخطاب الديني من سطوة الاستعلاء لا بد من رفع شعار “هناك فرق” في وجه الكثير من المسلّمات الخاطئة. فهل – يا تُرى – من مُذَّكر؟
المصدر : الصيحة