مليارات الدولارات وآلاف الأطنان من الخرسانة والحديد.. لماذا تتحصن إسرائيل داخل غابة من الجدران؟
مليارات الدولارات وآلاف الأطنان من الخرسانة والحديد.. لماذا تتحصن إسرائيل داخل غابة من الجدران؟
يرى محللو الشأن العسكري أن بناء إسرائيل الجدران حول نفسها يُعتبر تراجعا في عقيدة الهجوم والهجمات الاستباقية، في مقابل تعزيز الردع والحالة الدفاعية، كما يعكس أيضا “حالة ضعف”، وقد تستطيع المقاومة الفلسطينية اختراقها.
القدس المحتلة- أعاد تدشين إسرائيل جدارا تحت الأرض بطول 65 كيلومترا -ليعزلها عن قطاع غزة- النقاش حول نجاعة عقيدة “التحصن بالجدران” في توفير الأمن والأمان للإسرائيليين الذين يعيشون هاجس الخوف الدائم ممن يصفونهم بـ”الأعداء” في فلسطين التاريخية، ومن التنظيمات المسلحة في دول الطوق.
تبلورت فكرة إقامة الجدار تحت الأرض خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2014، حيث أظهرت العملية العسكرية التي سُمّيت “الجرف الصامد” إخفاق جيش الاحتلال في مواجهة الأنفاق الهجومية للمقاومة، التي تمكن المقاومون الفلسطينيون عبرها من اختراق الحدود والتسلل وقتل جنود إسرائيليين.
وقررت الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو، في يونيو/حزيران 2016، بناء خط دفاع جديد على حدود قطاع غزة لصد شبكة الأنفاق الهجومية التي طورتها المقاومة، وهو ثالث نظام أمني دفاعي تبنيه إسرائيل على طول الخط الحدودي مع غزة، حيث شرعت في بناء الجدار تحت الأرض أبريل/نيسان 2017.
تاريخ من الجدران
عكس قرار إقامة الجدار تحت الأرض مع غزة ثقافة “التحصن بالجدران” التي تبنتها المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بدعم وقرار سياسي من الحكومات المتعاقبة، والتي سبق لها ودشنت عام 2013 جدارا فاصلا على حدودها مع مصر بطول 230 كيلومترا بمحاذاة شبه جزيرة سيناء.
وصادقت عام 2015 على بناء جدار أمني بطول 30 كيلومترا، على امتداد الحدود مع الأردن بمنطقة العقبة جنوبا.
وفي محاولة من المؤسسة العسكرية الإسرائيلية لتأجيل حسم الصراع مع الفلسطينيين، بدأت حكومتها في يونيو/حزيران 2002 -في عهد رئيس الوزراء الأسبق أرييل شارون- ببناء جدار الفصل العنصري مع الضفة الغربية وداخل الأحياء السكنية العربية بالقدس المحتلة، حيث تم بناء 510 كيلومترات من أصل 810 كيلومترات من هذا الجدار.
لم يقتصر التحصن بالجدران مع دول الطوق ومناطق الصراع والتماس على الحدود الدولية، بل انتقل داخليا حيث باتت جدران الفصل مشهدا اعتياديا في حياة الإسرائيليين، ببناء جدران داخل بعض المدن الساحلية المختلطة (أي التي يسكنها من تبقى من أهلها الفلسطينيين واليهود، مثل اللد والرملة) لفصل وعزل الأحياء العربية عن اليهودية، ومحاصرة بلدات عربية مثل بلدة جسر الزرقاء، بجدران ترابية لفصلها عن بلدة قيساريا.
تقنيات وتكاليف
ومؤخرا، كلّف الجدار تحت الأرض مع غزة 1.2 مليار دولار، واستمر العمل به 3 سنوات ونصف السنة، بمشاركة أكثر من 1200 عامل، حيث تم إنشاء 6 مصانع للخرسانة والباطون على امتداد الشريط الحدودي مع القطاع، وتم استخدام 140 ألف طن من الحديد والصلب، وهو ما يعادل طول مقطع من الصلب يمتد من إسرائيل إلى أستراليا.
وبلغت كمية الردم الناجم عن المشروع 330 ألف شاحنة، أي ما يزيد عن 3 ملايين متر مكعب، وتعادل كمية الخرسانة والباطون حوالي 220 ألف شاحنة، أي ما يكفي لشق طريق من إسرائيل إلى بلغاريا.
ويتجاوز ارتفاع الجدار الحديدي فوق سطح الأرض 6 أمتار، ويضم الجدار العشرات من أبراج المراقبة والمئات الكاميرات، وأجهزة الرصد والإنذار. كما يمتد الجدار عدة كيلومترات في البحر، ويدار عبر غرف مراقبة وعمليات تحاكي مناورات هجومية وتسلل.
أما تحت الأرض -لمواجهة شبكة الأنفاق الفلسطينية- أقيم جدار إسمنتي عازل بطول 65 كيلومترا وبعمق عشرات الأمتار، ووضعت على طوله أجهزة استشعار وكاميرات للكشف عن أي عمليات حفر أو محاولات اختراق تحت الأرض.
تراجع عقيدة الهجوم
برأي المختص بالشأن العسكري والأمني، رامي أبو زبيدة، فإن بناء دول الاحتلال الجدران حول نفسها يُعتبر تراجعا في عقيدة الهجوم والهجمات الاستباقية، في مقابل تعزيز الردع والحالة الدفاعية.
ويقول أبو زبيدة إن المقاومة الفلسطينية عبر الأنفاق تجاوزت الكثير من الصعوبات، وأظهرت قدرتها على الإبداع والتكيّف مع ظروف أي معركة يفرضها الاحتلال الإسرائيلي.
وأوضح أبو زبيدة -للجزيرة نت- أن المقاومة التي تمكنت من حفر العديد من الأنفاق الهجومية وبعضها -وفقا حتى لتقديرات الاحتلال- اخترق الحدود، لم تظهر الخوف أو الارتباك حيال تدشين الجدار تحت الأرض، أو التردد في المضي بتطوير الأنفاق الهجومية، وذلك على عكس ما يروج له الاحتلال من أن الجدار سيسلب حماس إحدى قدراتها.
قصور وتحسين
ويعتقد المختص بالشأن العسكري والأمني أن الإسرائيلي يدرك أن المقاومة لا يمكن أن تتخلى عن الأنفاق في المستقبل، وأنها ستواصل تحسين قدراتها الإستراتيجية، وقد يسهم سلاح الأنفاق في تغيير موازين القوى والصراع مع جيش الاحتلال، وستكون له الكلمة القوية بأي معركة مقبلة.
وفي النهاية، يقول أبو زبيدة “ليس متوقعا أن تتوقف المقاومة عن حفر الأنفاق، لأن ذلك يعني إراحة الاحتلال”، بل على العكس، يعتقد أن “جهد المقاومة قد ينصب على المواجهة التقنية للجدران بما يضللها”.
ويقول إنه من الصعب على المقاومة في غزة الاستغناء عن الأنفاق التي تعتبر ضرورة إستراتيجية عملياتية ولوجستية.
مصدر ضعف
في الجانب الإسرائيلي، يعتقد المحلل العسكري لصحيفة “هآرتس” عاموس هرئيل أن تدشين الجدار مع غزة يثبت أن إسرائيل غير معنية باحتلال القطاع، بل تُحصن ذاتها من أي هجمات مستقبلية لحركة حماس والفصائل الفلسطينية المسلحة.
وأوضح هرئيل أن الجيش الإسرائيلي يتمتع بميزة عسكرية واضحة على الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، ولكن التحصن بالجدران يكشف عن مصدر ضعف، وقد يُستغل من الفصائل التي نجحت بتجاوز الدفاعات الجوية التي تحصنت بها إسرائيل عبر منظومة القبة الحديدية، وتسلحت بالأنفاق الهجومية.
وبالنظر إلى تفوقها العسكري على وجه التحديد، يقول هرئيل “أصبحت إسرائيل أكثر حساسية للضحايا وأقل استعدادا للتضحية. ومنذ فك الارتباط مع قطاع غزة عام 2005، تبنت الحكومات المختلفة خطا شبه موحد، حيث تجنبت الحرب الشاملة، وبالتأكيد، امتنعت عن مناورات برية واسعة النطاق فيها”.
جزء من الرد
وحول جدوى الجدار في منع المقاومة الفلسطينية من الوصول إلى أهدافها في إسرائيل، يقول المحلل العسكري إن “النضال الفلسطيني يطوّر ذاته ويتكيّف مع المستجدات؛ وعليه، فمن المحتمل أن تبحث الفصائل في غزة عن المزيد من الطرق الالتفافية والأساليب الأخرى، ولربما تجدها تستثمر الآن في تهريب وتصنيع الطائرات المسيّرة”.
وببناء جدار على حدود سيناء، أوقفت إسرائيل بشكل كامل -كما يقول هرئيل- “تسلل طالبي اللجوء والعمال المهاجرين من أفريقيا. ومع بداية العام القادم، من المقرر تدشين مشروع السياج على طول الحدود مع لبنان”.
لكن هل وفرت هذه الجدران الأمن لإسرائيل؟ يجيب المحلل العسكري الإسرائيلي “على ما يبدو في المنطقة التي تعمل فيها إسرائيل، سيبقى بناء الجدران جزءا ضروريا من الرد الأمني المستقبلي”، مضيفا أنه في “حال التصعيد على جبهات غزة ولبنان والضفة، سيضطر الجيش الإسرائيلي للاستعانة بالقدرات الهجومية والقوات البرية التي تواجه أصلا تحديات منذ عقود”.