مقاربات فكرية.. فى ذكري ١٩ ديسمبر أبو الحسن الندوي يكتب .. ماذا خسر العالم وأهل السودان بانحطاط الأسلاميين
مقاربات فكرية.. فى ذكري ١٩ ديسمبر أبو الحسن الندوي يكتب .. ماذا خسر العالم وأهل السودان بانحطاط الأسلاميين
د. *محمد حسن فضل الله -مدير مركز الخبراء العرب .
(١)
من أشهر ما مر علي المكتبة الاسلامية في تفسير دورات الإنسانية ، والانحاط الحضارى، ودوران الحكم ، وتقلبات السياسة ، وغريب التاريخ الذي يصيب الأمم والشعوب كتاب ( ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) لمؤلفه الهندى الإمام : علي أبو الحسن بن عبد الحي بن فخر الدين الندوي وشهرته (أبو الحسن الندوى وظهرت أول طبعة للكتاب سنة ١٩٥٠م ثم تلته
طبعات من أشهر من قدموا لها الشهيد سيد قطب بقوله (.إن الإسلام عقيدة استعلاء، من أخص خصائصها أنها تبعث في روح المؤمن بها إحساس العزة من غير كبر ، وروح الثقة في غير اعتزاز، وشعور الاطمئنان في غير تواكل. وأنها تشعر المسلمين بالتبعة الإنسانية الملقاة على كواهلهم، تبعة الوصاية على هذه البشرية في مشارق الأرض ومغاربها، وتبعة القيادة في هذه الأرض للقطعان الضالة، وهدايتها إلى الدين القيم، والطريق السوي، وإخراجها من الظلمات إلى النور بما آتاهم الله من نور الهدى والفرقان).
(٢)
أما الإمام أبو الحسن الندوي فقد كان يرى في انحطاط المسلمين خسارة للعالم كله فقال في مقدمته للكتاب (لم يكن انحطاط المسلمين أولا وفشلهم وانعزالهم عن قيادة الامم، حادثة من نوع ما وقع وتكرر في التاريخ من انحطاط الشعوب والامم، وانقراض الحكومات والدول، وانكسرت الملوك والفاتحين ، والجزر السياسي بعد المد .. فما اكثر ماوقع هذا في تاريخ كل أمه، وما أكثر أمثاله في تاريخ الإنسانية العام ، ولكن هذا الحادث كان غريب المثال في التاريخ.. مع أن في التاريخ مثلاً
لكل أمثلة ومثالاً لكل غريب ..ثم يمضي أبو الحسن الندوي ليرسم إجابة لسؤاله ماذا خسر العالم بعد انحطاط المسلمين؟ ويصف خط الانحدار الرهيب الذي ترتكز فيه الإنسانية … ومن خلال هذا الإستعراض، يحس القارئ بمدى حاجة البشرية الملحة إلى تغيير القيادة الإنسانية، وردها إلى الهدى الذي انبثق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الجاهلية إلى المعرفة، ويشعر بالقيمة الكلية لوجود هذه القيادة في الأرض، وبمدى الخسارة التي حلت بالبشر جميعاً لا بالمسلمين وحدهم في الماضي وفي الحاضر وفي المستقبل القريب والبعيد.
(٣)
قياساً علي كتاب أبو الحسن الندوي ومقاربة لتفكيره .. وفي ذكرى ١٩ سبتمبر التي انهت حكم الإسلاميين في السودان… ربما جاز بغير إخلال ،ولا إختزال أن نسأل ماذا خسر السودان والعالم بانحطاط الاسلاميين؟ وافول حكمهم وذهاب دولتهم … فالأمر مثلما قدم أبو الحسن الندوي هو انحسار بعد مد، أو انحطاط من بعد تفوق، أو نقص من بعد زيادة… ولكن في الأمر
خسران عظيم في تاريخ السودان، وارتكاس في مسيرته، وانهيار في قيمه ، وانكسار في هيبته، وفتات في قوته ،وانخرام في شمله، وبداية لذهاب ريحه، وهو على مستوى أمة الإسلام فقد لأهل الصحوة الإسلامية، وووهن في قوة الحركات الإسلامية، واندثار لنموذج الفكرة والمثال القائم علي الواقع ..
(٤)
أول ما خسره أهل السودان بعد ذهاب الاسلاميين وانحطاط دولتهم، هو غياب الدولة نفسها بمعناها الواسع ، الدولة التى ترتكز الي أصول الحكم فكراً ، وتلتزم تصوره قولاً، وتعتمد احكامه فعلاً .. الدولة التي تبسط الهيبة وتزع بالسلطان من لم يتزع بالقرآن، الدولة التى اذا أمرت أطليعت ،و اذا وعدت انفذت وإذا قالت صدقت. الدولة التى قوامها الهيبه وجمالها النظام
وعمادها العدل ..الدولة التي تأخذ بيد المظلوم وتضرب على يد الظالم وتأطره في الحق أطراً.. الدولة التى ترد الحكم إلى اهه والسلطان الي قواعده … فتعد قاعدة واسعة من أبناء المناطق قادةً لمناطقهم ،وحكاماً لذويهم فلم يشهد تاريخ السودان بأكمله تداولاً في السلطة، ومشاركة لأبناء الولايات في حكم مناطقهم واداراة شأنهم .. الدولة التي ظاهرها النبل، وشعارها الكرامة، وقوامها العدل ، وغايتها رفاهية إنسان السودان وسعادته
(٥)
بذهاب الاسلاميين خسر السودان القيادة التحدي والزعامة الملهمة التي: تستنبت الأفكار، وتستولد العزائم ، وتعبئ الطاقات ،وتحشد الجهود، وتبعث في الأمة نفسية التحدي ورغبات الطموح، وبواعث التوثب… القيادة التي إن وقف العالم ضدها وأحاط بها الحصار الدولي، وتناصبها العداء من كل صوب أوعزت في اذن شعبها (لاتحزن إن الله معنا )فإذا بالحقول تنبت خضرة،
والأصقاع تنهض تنميةً، والكباري تستطيل عزماً ، والطرقات تمتد في إباء تربط السودان شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً … وكتائب المجاهدين تتدفق الى الثغور، وأرواح الشهداء تتنافس فى العبور ، ومعسكرات الدفاع الشعبي تمتليء بالمتطوعيين ، وكتائب الإسناد المدني تتزاحم بالخبراء والمختصين فى أروع ملاحم حشد الإرادة الوطنية والجهد الوطني الصادق .. القيادة التي لها في كل يوم مشروع ينهض، ومبني يشهق ، وحلماً يتحقق، وأملاً ينساب واقعاً في ثورات التعليم، ونفير الزراعة، وبناء السدود ،ومد شبكات الكهرباء .
(٦)
بذهاب الاسلاميين انهارت الخدمات جمعيها واصبحت عصية النوال ، لا العلاج في المستشفيات ولا الأسعار فى السوق، ولا قضاء الحاجات فى دووايين الدولة .. وتراجع التعليم، وتخلفت المناهج وتسلل الالحاد والنصرانية الي كتيبات تلاميذ الأساس، وتعطلت الجامعات، وتكدس الخريجين وتراجع التصنيف العالمي لها ،ونزح الطلاب بحثا عن التعليم الي مصر وتركيا، والهند بعد
تنظيم كان السودان للتعليم قبله وللطلاب مناراً.. وسبل الاعلام والقنوات الفضائية السودانية.. من بعد الطهر في موادها المقدمة والحشمة في ثياب مذيعاتها، والرصانة في طرحها ، والقوة في فكرها ..صارت إلى الفجور أقرب، وإلى الوضاعة أدنى ،وبالتعرى ألصق ، وبعقيدة التثليث، والالحاد والعلمانية والنصرانية أكثر ايماناً وتصديقاً.
(٧)
بإنحطاط الإسلاميين وتراجعهم فقد أهل السودان قيمة الأمن ، وضاعت منهم الطمأنينة ، واندلع وسطهم الإقتتال .. فقتلت الأسر في البيوت ، واغتصبت العذارى في الطرقات، واختطف الأطفال من الشوارع وتعلم الناس حيازة الأسلحة.. وتركيب الكاميرات في بيوتهم، وأجهزة التتبع في سياراتهم … مثلما ضاع الأمن الإجتماعي ، وتعالت قيم العنصرية النتنة، وانطلقت قيود الاثنية الفتنة، فسالت دماء ذوى القربى ،وإحترب الأشقاء ، وتنازع أبناء العمومه … وساد الهلع وإنتشر الخوف، وعمت
الفوضى فلايدري قتيل بأي ذنب قتل ،ولا قاتل بأي سبب اقتص منه لكثرة الأسباب … وصار الرجل لا يأمن حتى من رفيقه، بعد أن كان المسافر من بورسودان الي الجنينة ، لايخشي الا الله، والذئب على غنمه… بغياب الاسلاميين إنهار قانون النظام العام، لتفتح الدعارة نوافذ مشرعه والخمارات ابواباً متطاولة، ويستجرئ الشواذ على المطالبه بالحقوق ، وترتاد العاهرات
أجهزة الميديا فتطالب بصديق لمن تزوج عليها وتعديل المواريث، وتمليك العصمة للنساء، وترفع الوصاية الأبوية عن الفتيات لينطلقن على حل شعورهن … بغياب الإسلاميين شهدت البلاد أوسع تجارة للمخدرات ، بيعاً وحمايةً وتجارة وأدمن الشباب
،وفقدت الحياء البنات… وانهارت قيم المجتمع، وتجرأ أهل الباطل على الظهور، وصارت لجان المقاومه تبلغ عن المصليين في رمضان، وتعتقل الركع السجود.. وتحول المساجد الي مخازن للغاز وتوزيع الخدمات بالبطاقات التموينية..وبالجملة ضاع على
أهل السودان بذهاب الإسلاميين سلطاناً يحض الناس على مكارم الاخلاق ويقودهم اليها ، يبني المساجد ، ويشيد الخلاوي ،وينشيء المدارس القرآنية، ويشكل المجامع الفقهيه، ويعتمد حافظ القرآن الكريم بمرتبة خريج الجامعه، سلطاناً يعلي قيمة الشعائر، ويعظم الحرمات ، ويقيم الجمع والجماعات ، سلطانا يحفظ الواجبات، ويسهر على الكليات … بغياب الاسلاميين عن المشهد صار للكفر رأس، وللنفاق ألسن، وللرزيلة أرجل تضرب فى الأرض بغير عقال.
(٨)
بتراجع الاسلاميين انطلقت دول الإقليم المجهولة، السفارات المغمورة، والاستخبارات الموتورة لتقرر في أبناء السودان نيابةً عنهم وتحدد مصائرهم، وتحجر على ارادتهم، وتتدخل في شئونهم.. فلا (بركاوي ) يصرف، ولا سفير يطرد، ولا مبعوث تنهي مهمته، ولا دولة تنذر، ولا منظمة تحذر، بل صارت البلاد بواحاً، والحدود منزوعة الأبواب والمداخل بلا حجاب .. بذهاب
الاسلاميين فقد السودان قيمته في المنابر العالمية، ومكانته في المواقف الدوليه، وصار مجرد تابع يجر من أذنيه، ويقاد بحبل من عنقه لدعم موقف تلك الدولة، أو الوقوف ضد ذلك القطر. ليس اكثر من(تمامة عدد) و (تمومة جرتق) ولزوم ما لايزم … بذهاب الاسلاميين توارى عن المشهد أبناء الأصول، واحفاد البيوت الكبيرة، وأبناء الأسر النبيله ، والزعامات الوطنية الخالصة
والكفاءات الوطنية الحق، وصار الجو خالياً لعملاء السفارات، ولقطاء الشتات ، ودهماء المنافي ، وشذاذ الأفاق ،ورجرجةالغربة.. القادمين من كل فج عميق يتسنمون الأمر، ويستوزرون في الوزارات، ويوقعون الاتفاقيات تمكيناً لسيداو غيرها وتثبيتاُ للعهر ، وتتويجاً للرذائل .. قيادات منبته عن المجتمع ،مقطوعة عن الأصول، لايعرفون الجمع ولا الجماعات، لا يشهدون تشييع الموتي ، ولا مشاركة الأفراح ولا توقي رموز المجتمع السوداني، ولا يدركون له مفتاحاً، ولاطريقاً .
(٩)
بإنحطاط الاسلاميين في السودان تراجعت عالمياً ضمائر الشعوب المؤمنه بالتحدي، وإرتكست في نفوس أهل الصحوة، ووهنت فى عزائم الحركات الإسلامية فكرة عودة الاسلام في دورات الحضارة من جديد ، وفكرة سيادة البعث الحضاري فيأفق الإنسانية، وغاب نموذج تجسيد الإسلام دين ودولة واندثرت فكرة النموذج العملي، وانسدت أبواب عديدة من أبواب الاجتهاد في مشروع الإسلام الساسي، وتطوير الأحكام السلطانية، وأبواب العلاقات الخارجية والعلاقة مع الآخر ، و فصول أسلمة
الاقتصاد، وتأصيل كافة مناحي الحياة من خلال فكر واقعي عملي عملاني يأخذ من تحديات الواقع، ويجتهد عليها بعيداً عن التعميمات النظرية، والخطب التجريدية، ودون الهروب من ساحة معركة التدافع الحضاري بين الأمم… (فما أحوج المسلمين اليوم إلى من يرد عليهم إيمانهم بأنفسهم وثقتهم بماضيهم ورجاءهم في مستقبلهم .. وما أحوجهم لمن يرد عليهم ايمانهم بهذا الدين الذي يحملون اسمه ويجهلون كنهه، ويأخذونه بالوراثة أكثر مما يتخذونه بالمعرفة) وذاك رأي الشهيد سيد قطب في مقدمة الكتاب.
(١٠)
في مثل ذكرى ١٩ ديسمبر يسجل ابو الحسن الندوي علي كتابه ص (٤٠) قريبا من هذه المشاعر فيقول بقليل _من تصرف الكاتب _ (لم يكن هذا الحادث يخص الاسلاميين ، وحدهم، ولا شعب السودان الذي صحبهم زمانا، ولا شعوب العالم التى عايشتهم لفترات، ولا حركات الصحوة الإسلامية التي تعلمت منهم الدروس مرات ومرات، بل هي مأساة انسانية عامة لم
يعرف التاريخ اتعس منها، وأوخم عليه منها …لو عرف الناس حقيقة هذه الكارثة، ولو أدركوا مقدار رزيتهم وخسارتهم، وإنكشف عنهم غطاء العصبية…لاتخذوا من هذا اليوم النحس يوم عزاء ورثاء ويوم، نياحة وبكاء، ولتبادل الناس التعازي ،ولبست الايام ثوب الحداد .. بيد أن الناس حتي الان لم يحسبوا الحساب الصحيح لهذا الحادث، ولم يدركوا قدره ومقداره … ولله الأمر من قبل ومن بعد ،،،