مدن لا تصلح للسكن.. لماذا تُصيبنا المدينة الحديثة بالاضطراب والضيق؟
“في البدء، نُشيّد المُدن، ومن ثم، تشيّدنا مُدننا”
(ونستون تشرشل)
من السهل أن نُغفل ما تألفه أعيننا، فعندما نُمر على المكان نفسه مئات المرات، تنسحب تفاصيله إلى الخلفية، وينصب تركيزنا بأكمله على ما نفعله في تلك اللحظة. ما لا ندركه حينها أن تفاصيل المكان تلك، حتى وإن لم نُولها انتباها، تتسرب إلينا، وبالطريقة نفسها التي تُلقي بها أجسادنا بظلالها فوقها، تُلقي هي بظلال روحها على روحنا، صابغة أحاسيسنا بنكهتها. “مكان مُقبض”، “مكان جميل”، “مكان مريح”، “مكان مُشمس”، “مكان حميم”، “مكان بارد”، كلها صفات نُطلقها على ظلال الأماكن. وكل تلك الأماكن بتفاصيلها وظلالها وأجوائها تجتمع وتتآلف مع بعضها البعض لتُشكّل مسرح حياتنا، لتُشكّل المدينة.
بداية من ستينيات القرن الماضي، توافدت أعداد غير مُسبوقة من البشر من القرى إلى المدن، باحثين في عواصم الحضارة عن فُرص لحياة أفضل. ولم تضنّ المدينة على معظمهم بالرقي الاقتصادي، فمنحتهم وظائف وأموالا كان مُحالا أن يتحصّلوا عليها من حيث أتوا؛ لكن، في الوقت نفسه، سلبتهم المدينة الكثير في المقابل.
فإذا كان للأماكن أرواح وظلال، فإن للمدينة كمكان كبير أيضا روح وظل، لكن روحها عدائية وظلّها كئيب؛ فسُكان المدينة هم الأكثر إصابة بالأمراض النفسية من قلق واكتئاب، وهم أيضا أكثر شعورا بالوحدة من نظرائهم في القُرى.[1] لهذا بالطبع أسباب اجتماعية واقتصادية بحث وراءها الخُبراء طويلا، لكن ما لم يولوه الكثير من الاهتمام ربما كان هو السبب الأكثر وضوحا: معمار وتخطيط المدينة.
كانت الستينيات أيضا الحقبة نفسها التي شهدت قيام نظريات واتجاهات مهمة في أساليب المعمار طبعت نفسها إلى الآن فوق شوارعنا وأحيائنا. وأيًّا كانت تلك النظريات والاتجاهات، فيبدو من روح المدينة الكئيبة وأهلها المصابين بالحزن والقلق والاغتراب أنهم لم يُبلوا بلاء حسنا. يذهب لذلك الرأي المعماري البارز “جان غيل”، ويقولها صراحة: “إن أراد أحد في أي وقت أن يدفع لمختصين لوضع مخطط للمدينة ليقتل الحياة فيها فلن ينجزوا شيئا أفضل مما أنجزه العصريون في هذا الصدد”.
مدن لم تُبنَ لنا
“المدينة ليست فقط مُستودعًا للمتع، إنها المسرح الذي نخوض فوقه صراعتنا ونلعب دراما حياتنا. من شأن المدينة أن تُقوي أو تُدمر قدرتنا على التأقلم مع التحديات اليومية؛ أن تسرق استقلاليتنا، أو أن تعطينا الحرية لنزدهر؛ أن تمنحنا بيئة من السهل التحرك فيها، أو أن تخلق سلسلة من المتاهات تستنفذنا في كل يوم. إن الرسائل المسطورة في العمارة ونُظمها من شأنها أن تعزز إحساسنا إما بالتَمكُن، إما بالعجز”
(المدينة السعيدة، تشارلز مونتجومري)
لسنا في حاجة إلى أن نقضي وقتا طويلا في مكان ما حتى يُصيبنا قبس من روحه؛ فأرواح بعض الأماكن تحمل دفقات قوية من المشاعر تمسّنا فور أن نخطو داخلها خطوة واحدة. والمدينة تصيبنا بالقلق والعزلة لأن روحها، عوضا عن أن تُشعرنا بالألفة وتدعونا لنقترب منها ونُعايش أجواءها، تُؤْثِر أن تطردنا بعيدا عنها. هذه ليست محض انطباعات أو تهيّؤات؛ فالمعماريون أثناء وضعهم خططا للمدن الحديثة، فاتهم أن يفكروا فيها كمكان سيقضي فيه الناس أوقاتهم، ورأوا فيها فقط معابر أسفلتية تقطع فوقها السيارات الطريق من مكان لآخر. المدينة الحديثة بُنيَت كفراغ للانتقال، وليست كمكان للاستقرار، وشوارعها لم تُشَقّ للبشر، بل للسيارات.
يتحدث المعماري جان غيل حول هذا في كتابه “مدن للناس” ويقول: “طوال العقود الأخيرة، يتم تناول البُعد الإنساني بتهميش وعدم اكتراث في سياق التخطيط العمراني، وذلك في الوقت نفسه الذي تحتل فيه موضوعات أخرى، مثل استيعاب الزيادة الصاروخية في أعداد السيارات، واجهة النقاش. بالإضافة إلى هذا، وضعت أيديولوجيات التخطيط السائدة -الحداثية بالذات- أولوية منخفضة للفضاء العام وشوارع المُشاة ودور المدينة كمساحة للقاء سُكان الحضر”.[2] ويذهب المعماري بيتر بلايك للشيء نفسه في حديثه مع مجلة “بيبول” الأميركية ويقول: “أنتجت المدن الحديثة صدمة من العيار الثقيل، فهي لا تتوافق على الإطلاق مع أسلوب حياة البشر. معماريون مثل لو كوربيزيه كانوا فنانين تجريديين في الواقع، أنتجوا رموزا لعالم جديد، لعصر جديد، لأسلوب حياة جديد، لكن لم يخطر في بالهم للحظة أن هنالك أناسا سيعيشون ويعملون ويمارسون الحب في تلك الأماكن”.[3]
نظرة واحدة إلى شوارع معظم المدن الحديثة اليوم ستعطي لنا دليلا عمليا على كل هذا؛ فلكي يُسهّل مخططو الأحياء تدفق السيارات ويجعلوا الشوارع تستوعب أكبر عدد ممكن منها، قلّصوا أحجام الأرصفة بشكل كبير، بحيث يصير سيرك وحدك فوقها غير مريح، وسيرك جنبا إلى جنب مع شخص آخر أحيانا مُستحيلا. والشيء نفسه يحدث في الساحات والميادين العامة، فتكاد تنعدم فيها شوارع المُشاة، ولكونها أماكن حيوية، يصل فيها الزحام المروري لذروته ما يُشْعِر بدوره المارةَ بالضيق والتوتر. وإعلانا لقدوم الحداثة وربما أيضا توفيرا للنفقات، اتّجه المعماريون لوضع مبانٍ شاهقة الارتفاع، تَقْزُم بجانبها معالم المدينة الأخرى، وتحجب الرؤية لمسافات طويلة، ما يُخلّف عند المارة وسُكّان المدينة شعورا بانسداد الأفق.
هذا ما يحدث في وسط المدينة والأحياء المركزية، والذي حاول المعماريون أن يخففوا بعضا من عيوبه في الأحياء السكنية، فما كان منهم سوى أن زادوا الطين بلّة. فتجنّبا للزحام، يتم تخطيط تلك الأحياء فوق مساحات شاسعة، يفصل فيها كل بناء عن الآخر فضاء واسع، وتُوضع الأسواق على أطرافها، بحيث يصير من المستحيل التنقل داخلها سوى بسيارة. نجح ذلك المخطط الجديد في التخلص من الزحام، لكنه حمل في داخله روحا ثقيلة من الوحشة خيّمت فوق تلك الأماكن.
يقول جان غيل عن هذا في كتابه: “في الشوارع الضيقة والأماكن الصغيرة، يصير بإمكاننا أن نرى المباني والتفاصيل والأناس من حولنا عن قُرب. هنالك الكثير لنستوعبه، نشاطات ومبانٍ زاخرة نخبرها بقوة وكثافة. ذلك مشهد نراه دافئا وحميميا ومرحبا. وعلى النقيض التام من هذا، يقف ما نخبره في المجمعات السكنية ذات المساحات مترامية الأطراف والمباني الضخمة، حيث التفاصيل قليلة وبالكاد يوجد أناس. هذا النوع من الأحياء نراه رسميا وغير شخصي وباردا، مكان لا يوجد فيه الكثير مما يستحق المعايشة”.[4]
هذا ما يحدث عندما تُهمَّش حالتنا المزاجية وأهواؤنا وطباعنا كبشر، وتُخطّط المدن والمباني بشكل هندسي جاف يعطي أولوية للوظيفة العملية فوق أي شيء آخر. لكن ما الذي يحدث يا تُرى عندما نصير جزءا من المُعادلة؟ عندما تُؤخذ حاجاتنا الاجتماعية ورغبتنا في التواصل والتشارك مع بعضنا البعض في عين الاعتبار؟ مثلما طبّق لو كوربيزيه نظرياته في شوارع وأحياء ومباني الكثير من مُدن العالم، تسنّى لجان غيل أن يفعل الشيء نفسه في كوبنهاجن، عاصمة بلاده الدنمارك، فما الذي حدث حينها؟
عندما تُبنى المدينة لنا
“على مر التاريخ، وفضاء المدينة يعمل كمكان للتجمع على مُستويات عدّة لسُكّان المُدن. فهناك، كان الناس يتقابلون ويتبادلون الأنباء ويعقدون الاتفاقات ويرتبون الزيجات؛ هناك، كان فنانو الشوارع يقيمون عروضهم والبائعون يعرضون بضاعتهم؛ هناك، كانت المراسم تُعقَد والسلطة تتجلى، والاحتفالات والعقوبات تقام بشكل عام. كانت المدينة هي مكان الاجتماع”.
(جان غيل، مُدن للناس[5])
أراد جان غيل أن يُعيد للمدينة روحها السابقة، ولأنها كانت تستمد تلك الروح أصلا من الناس، وضع تركيزه عليهم وجعلهم مركز إستراتيجيته الجديدة لتطوير كوبنهاجن. وبينما كان غيره من المعماريين يُجْرُون الحسابات ويعرفون بالضبط كم سيارة تعبر في كل كيلومتر كل دقيقة، اتجه هو لحساب عدد المارة والمساحة التي يحتاجون إليها كي يسيرون في الشوارع بأريحية. لم يَشُقّ مزيدا من الطرق للسيارات، بل اتجه لأشهر الميادين العامة وجعلها ساحات للمُشاة لا تعبر فيها وسائل المواصلات. وكان في قلب تلك الساحات أن ازدهرت الحياة.
ففوق أرصفتها وفي أزقتها أُقيمت المقاهي في الهواء الطلق، وشاركتها المحلات الصغيرة المكان. واتخذت العديد من الأنشطة الثقافية والفنية من قلب الميادين مقرا لها، فأضفت حيوية على الأجواء. كما اتُّبعت سياسة جديدة تقتضي وضع حد أقصى لعدد طوابق كل بناية، حتى يصير الأفق مفتوحا أمام الناس.
كان هذا تطبيقا مُباشرا لفلسفة غيل حول التخطيط العُمراني التي عرض لها في كتابه، فوفقا له، تنقسم الأسباب التي تدفع الناس للخروج إلى الشوارع إلى قسمين، توجد في القسم الأول الحاجات التي لا مفر منها من ذهاب لعمل أو دراسة أو تبضع من أجل شراء الأساسيات، وتقف على الجانب الآخر الأنشطة الترفيهية من تجول في أرجاء المدينة واستكشاف معالمها وقضاء نهار مُسترخٍ فيها. مهما كان حال المدينة سيئا وشوارعها قبيحة ومبانيها طاردة للألفة، نذهب جميعا لأعمالنا أو جامعاتنا مضطرين بلا خيار؛ لكن وحدها المدن الجميلة هي التي تُعطي لنا مساحة لنستمتع بها، ويتحول مجرد التجول فيها إلى نزهة جميلة. وقد أراد هو أن يجعل كوبنهاجن تنتمي إلى النوع الثاني، وهو ما كان.[6]
ومن الحاجات الأساسية التي رأى غيل أن المدن يجب أن تلبيها هي الحاجة إلى التواصل. فالأماكن المفتوحة والمقاعد العامة حيث يتشارك الناس الساحات، تعطيهم فرصة جيدة للتعارف. والأنشطة التي تجري في تلك الأماكن تعطي للمشتركين فيها مادة جيدة للحوار. وبهذا، عوضا عن الضجيج المزعج للسيارات، تصبح الهمهمة الأليفة للأحاديث هي الصوت المُتردد في ميادين وشوارع المُشاة.[7]
لكن يظل للأسف عدد المدن التي نهجت نهج كوبنهاجن قليلا للغاية، وما زال ضجيج وزحام الشوارع وعدائية المدينة هو المسيطر في سائر البلاد، فكم من الوقت سنحتاج حتى ندرك أن المزيد من الطوابق والسيارات لن يحقق لنا التقدم أو الرقي، وأن المدينة مسلوبة الحياة تسلبنا بدورها الحياة؟