مقالات

محمّد محجوب هارون يكتب :  حربُ الخامس عشر من أبريل ٢٠٢٣ الانتقال من القتال للسياسة على مرمى حجر، لكن أين السياسيون؟

محمّد محجوب هارون يكتب :  حربُ الخامس عشر من أبريل ٢٠٢٣ الانتقال من القتال للسياسة على مرمى حجر، لكن أين السياسيون؟

 

(١)
الانتقال من القتال إلى السياسة

بات في حُكم المؤكّد أن الجيش السُوداني ماضٍ في تحقيق تفوق عسكري ميداني على متمرّدي الدعم السريع، ببسالةٍ وج بكُلفة بشرية و ماديّة كبيرة. هذا أمرٌ يصعُب أن يكون مكان اختلاف، و لا يحتاج إلى شهادة دكتوراه

للإقرار بصحته. ستبلغ حربُ الخامس عشر من أبريل ٢٠٢٣، التي ضربت الخُرطوم و ولايات في غرب السودان، نهايتها كنشاط قتالي، في العاصمة الخُرطُوم على أقل تقدير، في وقتٍ يبدُو قريبا. ستستكمل الحربُ نهاياتها على مائدة تفاوض بين فنيين يمثّلون الجيش الوطني و متمرّدي الدعم السريع، يجمعهم وُسطاء، غالبا في منبر

جدة. الراجحُ أن هذه الخواتيم ستكتب نقطة النهاية وفقا لما يعزّز المحافظة على الدولة و استرداد هيكلها خاليا ممّا ألمَ به من تشوُهات. لن نرَ خيمةً لقُوى مدنية سودانية في مُولد جدة، أو رأينا حضوراً لهُا، مراسِمياً باهتا. الحربُ، بحسابات القوة و الواقع، يُديرها المتقاتلون، و هم من يحددون أجل انتهائها في الميدان، أوّلا، فيما تُستكمل تسوية متعلقاتها على طاولة التفاوض.

ليست نهاية الحرب على مائدة تفاوض هي الموضوع الأكثر أهمية. التفاوُض هو المحطة التالية، و الوصول إليها تحصيل حاصل. الموضوع الأهم هو أين السياسة، و أين السياسيون؟

سُودان ما بعد حرب الخامس عشر من أبريل ليس هُو، بأيّ حال، سُودان ما قبل الخامس عشر من أبريل ٢٠٢٣. الحربُ التي ضربت عاصمة البلاد، هي حرب غير مسبوقة وفقاً لحسابات متعددة العناصر. من ذلك، أنّها الحرب التي يبدُو، على درجة من الوُضوح، أنّ كُلفتها الإجمالية تفوق

كُلفة دخول قوات محمد علي باشا السودان (1820)، و كُلفة دخول قوات الثورة المهدية الخرطوم (1885)، و كُلفة دخول قوات الاستعمار البريطاني البلاد (1899).
و من زاوية نظرٍ أُخرى، فإنّ هذه الحرب هي أعلى هرم تراكمات أخطاء السياسة السودانية، سياسيين و نُخبا متعلّمة، و خطاياها في حِقَب السياسة الوطنية لما بعد الاستقلال الثاني (1956).

أيّة محاكمة لاداء السياسة الوطنية و قوى الفضاء السياسي تُفضي إلى الحُكم بأنّه جرى تغييب للمصلحة الوطنية العُمومية، تعرفاً على ماهيتها، و عملاً على تحقيقها. و ساد الانقسام السياسي بتخندُق السياسيين و

النخبُ المتعلّمة، في حالات عديدة، خلف مصالح كيانية و حزبية و خاصة. تخندقٌ فاسد و اصطفافات مجنُونة. فقدت هذه النُخب المقدرة على التوافق على القواسم المُشتركة تحت مظلة الوطن الواحد و المواطنة الجامعة. أيّ صاحب عقل ينفي وظيفية الدولة و يختلف على ماهيّة وظائفها؟! مُواجهات بلا هُدى!!

أصاب البلاد ما أصابها من هدرٍ لمقدراتها و استنزاف طاقاتها. ضَرَب هيكل الدولة الوَهَن، فتآكل حضورُها و أداءُها، سيادياً و عمليّا. أوشكت الدولة أن تتلاشي. حرب الخامس عشر من أبريل هي حفلُ إعلان نتائج فساد أداء قوى الفضاء السياسي و العُمومي. يجب ألا نرى هذا المشهد يتكرّر مرّة أُخرى.
https://chat.whatsapp.com/DM6VBcfVQwq9BP3lpLZVxf
(٢)
أين السياسة و أين السياسيون؟

فُتِحت ستارات المسرح السياسي في سُودان ما بعد أبريل 2019 لنشاهد دراما سياسة شائخة، من حيثُ الرَهَق و الوَهَن و تآكُل المقدرات البشرية و الادائية.
خلال عقود حُكم الإنقاذ/البشير الثلاثة و بنهايتها اعترى كيانات العمل السياسي المعارض ذُبولٌ بائن. تعرّضت هذه القُوى، بدون شك، لسياسات اشتملت على الإقصاء، و الاستيعاب في هياكل الحُكم الإنقاذي، مقدار تعرُضها

لتآكل ذاتي. بدأت الحقبة السياسية الجديدة بتسيُد كيانات قوى الحرية و التغيير، أحزاباً و تكوينات مدنيين، الفضاء السياسي العُمومي. كان مفهوما أن يكون لها صوتٌ أعلى لمشاركتها في إسقاط حُكم الإنقاذ/البشير، و نصيبا فاق وزنها في (قسمة السُلطة)، العبارة السمِجة الخرقاء في خطاب السودانيين السياسي في زماننا هذا!

ما عدا حزب الأمّة لم تكن أحزاب الحرية و التغيير تمثّل ثقلاً سياسياً يُعتد به. فالقديم منها، ما عدا الحزب الشيوعي السوداني، لم يسجّل له تاريخ السياسة الوطنية وزنا مؤهلا للمشاركة في الحُكم بحسابات التأهل في النُظم الديموقراطية. و الجديدُ منها، في أحسن أحوالها،

تكويناتٌ من متعلمي مُدن من نسل طبقة وسطي و أخرى عُمّالية، نشأت في أحضان الحركة الطالبية، و لا يبدُو عليها أنّها تمكّنت من إحداث اختراق جماهيري يوفر لها قاعدة شعبية تزكيها لدور سياسي في ظل نظام ديموقراطي. هذا خللٌ أوّل في الطريق للبحث عن إجابة عن سؤال أين السياسة، و أين السياسيون؟

ليس أدل على ما أصاب حزب الأمة القومي من وَهَن، ضمن شواهد أخرى، من تموضعه في مقعدٍ خلفي في مدرّجات قوى الحرية و التغيير. و لعلّ ذلك هو ما أفضى به، على أيّام زعيمه الإمام الصادق المهدي، عليه رحمة الله و رُضوانه، إلى تجميد عضويته في قوى الحرية و

التغيير. و أضحى الحزب، مُنذئذ، “ركّاب سرجين”. هو حرية و تغيير، و هو غير ذلك، في آنٍ معا! ليس أدل على وهن الحزب الكبير من ذلك! أضحى السُلوك العمُومي لأجهزة حزب الأمة القيادية، و سلوك بعض رموزه متأرجحَين ما بين ميل للاستقلال على قاعدة الوطنية و الأنصارية و هُدى الإمام الراحل، و ما بين ميلٍ بائن لخطب وُد طيفٍ من مراكز قوة، محليّة و خارجية. و هذا خللٌ ثانٍ.

أمّا الحزب الاتّحادي فهو مثل صِنوه حزب الأمّة، و كلاهما حزبان عريقان سبقاً و تمثيلاً للتيار السياسي الوطني الغالب (Mainstream)، يتشاركان الحالة المَرَضيّة ذاتها. الحزبان تشققا مثل عُودٌ بين يدي حامل فأس، أحال العُود شظايا متناثرة، فيما استبقى بينها كتلة رئيسة هزيلة على

نحوٍ ما. تقدّم العُمرُ بزعيم الحزب، مولانا محمد عثمان الميرغني، فارتخت قبضته القيادية حتّى أنّ ابنيه السيد محمد الحسن و السيد جعفر آثرا التموضع على ضفتي النهر، واحداً قُبالة الآخر. انتهى الحزب الاتحادي بأن يُمثّل في الحرية و التغيير بمتمردين من قيادات تنظيمه الطلابي، سابقا، باسم التجمّع الاتحادي. و هذا خللٌ تالٍ.

أصاب تيارُ الإسلاميين ما أصاب غيره من انشقاقات و تشظّي. و ضربت تنظيماتهم صدمةُ التغيير. لم يكن السوادُ الغالب من الإسلاميين، في المؤتمر الوطني و المؤتمر الشعبي و من يُعرفون بقوى الرصيف، يتوقعون حُدُوث التغيير على نحو ما تم في أبريل ٢٠١٩. غابت تنظيمات الإسلاميين، و خبا صوتُها، ما خلا احتفاليات

تتخلّل حالات بيات و سبات طويلين. هُنا يُمكن تصّور حال الفضاء العُمومي و قد انسحبت منه، بعد سيطرة لثلاثين عاما، قوة تسيّدته، و شكّلت ملامحه، و بنت شبكات الرأسمال البشري التي تديره و تدير هياكل الدولة.

ترك الإسلاميون فجوة كبيرة لم يكُن ممكناً لقوى الحرية و التغيير سدّها. هذا خللٌ بنيويٌ آخر في تركيبة السياسة و التكوينات السياسية في الفضاء السياسي العُمومي.

إنكمشت قواعد التكوينات السياسية القومية في أطراف البلد، غرباً و جنوباً و شرقا. ليست التكوينات السياسية القومية هي التي انكمشت وحدها، بل انكمش، مع ذلك، نفوذ و جماهيرية التكوينات الإقليمية (الحزب القومي

السوداني في جنوب كردفان/جبال النوبة، تكوينات البجة السياسية في شرق السودان) بسبب نشوء حركات الاحتجاج المسلّح في الأطراف.

و حينما عادت إلى الخُرطوم بعد إتّفاق جوبا للسلام، في أكتوبر ٢٠٢٠، لم تكن حركات الاحتجاج المسلّح أقل إنهاكا من قوى الفضاء السياسي الأخرى، فضلاً عن أنها وجدت نفسها وجهاً لوجه أمام استحقاقات تتعلق بترتيب أوضاعها بعد انخراطها في حروب شارفت العقدين من الزمان.

تخلخلت تنظيمات العمل السياسي كافة، و تجمّدت خطاباتها السياسية، و تضعضعت هياكلها، و تآكل رأسمالها البشري، و تواضع أداؤها الفعلي، و غادر إلى الرحاب الفسيح القادة النُجوم.

كانت هذه هي الدراما على خشبة المسرح السياسي عند أُفُول شمس نظام الإنقاذ/البشير في أبريل ٢٠١٩، من جهة الممثلين، و لياقتهم و مقدراتهم الأدائية! لم يكن ممكناً حدوث تعافٍ لجماعة الممثلين، خطاباتهم و هياكلهم السياسية و أداءهم العملي، في مثل ظروف سادها الانقسام و التخندق و الغياب. كان معنى ذلك سيادة فراغ سياسي عريض.

(٣)
من ملأ الفراغ السياسي؟

بقدر من الموضوعية نستطيع أن نرى وَهَن القوى السياسية و النخب المتعلّمة عندما لجأت في السادس من أبريل 2019 للاعتصام أمام القيادة العامة للقوات المسلحة في الخرطوم. لم يكُن قائدُ الجيش، حينئذٍ، إلا رئيس البلاد المُعتصَم ضده. لم يحدُث شيئٌ من هذا القبيل في السادس من أبريل 1985 التي كُنا شهوداً عليها. ربّما لم يحدث حتّى في أكتوبر 1964.

كان هذا الوَهَن سبباً في إحداث فراغ سياسي ملأته القوى السياسية التي في الحُكم (الحرية و التغيير بتكتلاتها المُختلفة مُجتمعة أو متفرّقة) بعد أبريل 2019، بإسناد ظهورها إما على مراكز قوة داخلية (الجيش) في أبريل 2019، و (الدعم السريع) في ديسمبر 2022 عند

محطة الإتّفاق الاطاري، أو على قوى خارجية طوال حقبة ما بعد أبريل 2019. كما ملأت القُوى السياسية خارج الحُكم (الإسلاميون و حُلفاؤهم من القيادات الأهلية و طوائف تشظت عن أحزابها) الفراغ بخطب وُد الجيش!

الأحزاب السياسية و تكوينات النُخب ليست على استعداد لأن تعُود إلى خشبة المسرح السياسي في هذه اللحظة من تاريخنا السياسي، لاداء التزامات العمل السياسي كما ينبغي. و لكن الآن، بعد حرب الخامس عشر من أبريل و

كُلفتها التى لا مثيل لها، فليس من المسؤولية، المعرُوف و الأخلاق، أن تعتبر القوى السياسية و تكوينات المدنيين الوضع كما لو كُنا في إجازة صيف ريثما نعود إلى ما كنا

الأولى هو أن تنتبه الأحزاب، و تعمل على مشاغل خاصّة تتعلّق بأجندة إصلاح أساسية، و الأقربون أولى بالمعروف. هذه أولوية ليست لصالح عمليات إصلاح سياسي تجريها الكيانات السياسية و تكوينات النُخب

بموضوعية و شجاعة فحسب، و لكنها مهمة لمصلحة بناء سُودان ما بعد الحرب بدون أن تعُود (سليمة لقديما)، كما تقول مأثرة شعبية سُودانية.

من الأهمية، إلى كل ذلك، أن يتبلور وعي تتشاركه النُخبُ الوطنية، جنباً إلى جنب قطاعات الرأي العام الوطني المُختلفة، بأنّ الحرب تُبرز، بضغط و إلحاح شديدين، و لوقت غير قصير بعد إنهاء القتال المُباشر، عُلُو و أولوية الانشغال، باستخدام سُلطتي القانون و الأمن و استرداد الجهاز البيروقراطي للعمل، لكفكفة أوضاع عنف و فوضى

و كراهية بفعل الحرب و غياب الجهاز البيروقراطي (الحُكومة) في مناطق القتال المُباشر و في أحزمتها على امتداد البلاد. الأولوية هُنا لإعادة الحياة اليومية لوضع طبيعي، تدريجيا. أمّا بناء النموذج السياسي لسُودان ما بعد الحرب من حيثُ التوافق على نموذج الدولة، و هيكلة

مؤسسات الحُكم، و إعادة الإعمار كمشروع بنائي ما وراء الإسعافي، و الدفع بمشروع وطني للتحوّل الديموقراطي و التنمية الاقتصادية الاجتماعية، فهذه عملياتٌ تتطلب توفّر الاستقرار. و في مثل حالتنا هذه يتطلّب الاستقرار تركيزاً فائقاً على حفظ الأمن، و إقامة سُلطة القانُون، و

إعادة الحياة إلى طبيعيتها. كلُ ذلك وظائف دولة من الطراز الأوّل. حينما انفرط عقد الأمن عشية الخامس عشر من أبريل هذا العام لم يجد سكان العاصمة الخرطوم و بعض مدن أقاليم غرب السودان دولة. لم يجدوا وطنا يأوون إليه، و انتهوا إلى حال ما بين مُغادرة بيوتهم نازحين في أقاليم أخرى في وطن جريح، أو لاجئين إلى بلاد لن تكون، بأيّ حال، أوطانا بديلة!

(٤)
إيقاف الحرب و أجندة ما بعد إيقافها . .

كيف إذن سيرتب السُودانيون و السُودانيات لحظتهم هذه، ساعة إنهاء الحرب؟ كيف يحدّدون مشاغل سُودان ما بعد الحرب؟

إنّ طبيعة مرحلة ما بعد حرب غير مسبوقة في نوعها و كُلفتها و، بالضرورة مترتباتها المُباشرة، تقتضى تبيُن متطلبات و أجندة انشغال الشُركاء حيال إنهائها، و لمرحلة ما بعد الحرب، و بدرجة كافية من الوُضُوح.

كنتُ أشرتُ في الفصل الثالث من هذا المقال للآتي:

“من الأهمية، إلى كل ذلك، أن يتبلور وعي تتشاركه النُخبُ الوطنية، جنبا إلى جنب قطاعات الرأي العام الوطني المُختلفة، بأنّ الحرب تُبرز، بضغط و إلحاح شديدين، و لوقت غير قصير بعد إنهاء القتال المُباشر، عُلُو و أولوية

الانشغال، باستخدام سُلطتي القانون و الأمن و استرداد الجهاز البيروقراطي للعمل، لكفكفة أوضاع عنف و فوضى و كراهية بفعل الحرب و غياب الجهاز البيروقراطي (الحُكومة) في مناطق القتال المُباشر و في أحزمتها على امتداد البلاد”.

و أضفتُ:

“أمّا بناء النموذج السياسي لسُودان ما بعد الحرب من حيثُ التوافق على نموذج الدولة، و هيكلة مؤسسات الحُكم، و إعادة الإعمار كمشروع بنائي ما وراء الإسعافي، و الدفع بمشروع وطني للتحوّل الديموقراطي و التنمية

الاقتصادية و الاجتماعية، فهذه عملياتٌ تتطلب توفّر الاستقرار. و في مثل حالتنا هذه يتطلّب الاستقرار تركيزاً فائقا على حفظ الأمن، و إقامة سُلطة القانُون، و إعادة الحياة إلى طبيعيتها. كلُ ذلك وظائف دولة من الطراز الأوّل”.

بناءا على ذلك فإنّنا بحاجة، اولا و قبل كل شيء، لأن نُقبِل على، و نُقِر بحاجتنا لاجتراح نموذج جديد (New Paradigm)، حول إدارة مرحلة إنهاء الحرب و ترتيبات ما بعد إنهائها من حيث أنّ الحرب الراهنة هي حالةٌ غير مسبوقة، كما جاء في المقال. ما لم نتفق، بداية، على ذلك لا معنى لبحث التفاصيل.

١. هذا النمُوذج، و من حيثُ أنّ المرحلة مرحلة مسؤوليات لا مرحلة امتيازات، يتطلّب، أوّلاً، أن نترك ما للدولة للدولة، و أن نترُك للسياسة و السياسيين ما يليهم، و لأجل زمني مُحدّد. هذه عملية فضُ اشتباك أولى، و ذات أولوية، لا بُد منها.

٢. أسميناها انتقالاً أم إدارة طوارئ أم إسعافاً و ترتيب أحوال، فإنهاء الحرب يستدعي تركيزاً غالباً على جدول أعمال (أجندة) قبل الانخراط في تخيُل هياكلها و من يشغل هذه الهياكل. أمّا الأجندة فتتمثّل، إضافة إلى أي مهام أخرى، في استرداد و تشغيل الجهاز البيروقراطي

(الخدمة العُمُومية) ليعتني بملفات حفظ الأمن، و تطبيق القانُون بإقامة العدل، فيما يخُص رد الحقوق الخاصة و العُمومية، و إعادة ضخ الدماء في شرايين الحياة بتشغيل الجهاز الحُكومي المدني، و القيام بالعمليات الاسعافية بما

يُمكّن المواطنين من النازحين و اللاجئين من العودة إلى مساكنهم و أعمالهم، و إعادة شبكات الخدمات للعمل، و بعث الحياة في السُوق.

٣. هذه المهمّة ينبغي أن يُترك للسُلطة العسكرية الحالية، بلا نزاع، تأسيس هياكلها و الإشراف على إدارتها بجهاز مدني، على المستوى الاتّحادي، من كفاءات وطنية مشهود لها بالأهلية و التميز. ربّما اقتضت الحِكمة المحافظة على

تمثيل قَوى اتفاق سلام جُوبا (٢٠٢١)، على أن تقبل قوى جُوبا، كذلك، بأيّة مراجعات يقتضيها واقع ما بعد الحرب بالتفاهم مع القيادة العسكرية. بالطبع نحتاج أن نحدّد في هذا النموذج أين تكون سُلطة التشريع، في المستويين الاتحادي و الولائي؟

٤. ستنشغلُ السلطة الاتحادية بالملفات الاتحادية. فكون العاصمة هي الإقليم الذي وقعت فيه الحربُ، لأوّل مرة، في ظل الدولة الوطنية لما بعد الاستقلال الثاني (١٩٥٦)، فذلك من شأنه أن يزيد من انكفاء الهياكل الاتحادية على مشاغل الخرطوم، شئنا أم أبينا. و لأنّ حفظ الأمن و

تطبيق القانون يمثّل مهمّة غالبة لما بعد الحرب حتى في الولايات، فربّما كان من الأنسب على المستوى الولائي أن تُشكل حكومات ولائية من مدنيين تحت قيادة وُلاة عسكريين، في الخدمة أو من متقاعدي الخدمة العسكرية.

٥. و على مستوى المحليّات و الوُحدات الإدارية فربّما كان من المُهم اعتماد جهاز الحُكم المحلي ذاته للعمل، و تقويته بتعبئة القيادات المحلية، للإسهام في عمليات حفظ الأمن و المحافظة على التماسُك المُجتمعي. لقد استحدثت الحرب انقسامات في المجتمعات المحلية، و/أو عمّقتها،

خاصّة في غرب السُودان ممّا لا سبيل لترميمها بدون انخراط القيادات الأهلية المحليّة في هذه المُهمّة. هذا الانخراط للقيادات الأهلية يُمكن، ضمن أيّة خيارات عملية بديلة، أن يتم في هياكل محلية كمجالس محليات/إداريات يرشحها المُعتمد/المُحافظ و تعتمدها حكومة الولاية.

٦. أمّا قوى الفضاء المدني (أحزاب سياسية و هياكل مُجتمع مدني و مُجتمع أهلي) مجتمعة بلا استثناء، و بتوافق وطني عريض القاعدة، فأجندة الأولوية ممّا ينبغي لها الانشغال به هي ترتيبات سُودان ما بعد الحرب. هذه

المهّمة يتعلق طرفٌ منها بعمليات إصلاح سياسي حزبي و إصلاح مهام و هياكل و تشريعات المُجتمع المدني/الأهلي. و هذه مهمّةٌ تتطلّبُ تحرير موضوعاتها بدرجة كافية من الوُضُوح، كذلك.

٧. أمّا الشِقُ الثاني من مهمة قوى الفضاء المدني، بالضرورة بتشاورٍ مع المؤسسة العسكرية كذلك، فموضوعاتها، مع أيّ تأهيلٍ لها، تتمثّل في بناء النموذج السياسي لسُودان ما بعد الحرب. يشمل ذلك التوافق على نموذج الدولة و تصميم و هيكلة مؤسسات الحُكم، و

إعادة الإعمار كمشروع بنائي لا إسعافي، و الدفع بمشروع وطني للتحوّل الديموقراطي و التنمية الاقتصادية و الاجتماعية، و التأسيس الدستوري لسُودان ما بعد الحرب.

٨. مُجمل هذه الترتيبات تحتاج لتأسيس دستوري، بالضرُورة. و لكونها ترتيبات مؤقّتة فالتأسيس الدستوري لها يُمكن أن يتم بتدابير دستورية مؤقّتة تصدُر عن القيادة العسكرية.

٩. المُهم لجعل هذه الترتيبات مكان توافق، و أن يكون تنفيذها أمرا مُمكنا، هو الحُصول على تطمينات متبادلة، أهمُها تطميناتٌ من القيادة العسكرية على توفير قاعدة كافية من الحريات خلال الفترة المُؤقّتة هذه، و الالتزام

بالعودة إلى الوظيفة العسكرية كليّة عند انتهائها، بما يؤمّن تمدين الحُكم على النحو الذي ستتوافق عليه قُوى الفضاء المدني. هذا طريق ينتهي بانتخابات، حرّةٌ و نزيهة، يلزم التمهيد لها ليتم اجراؤها بنهاية أجل حكومة الكفاءات.

١٠. و بما أنّ ترتيب هذه العمليات يستدعي أن تكونَ ملكيتها بأيد السُودانيين و السُودانيات، فالطريق إلى ذلك هو أن تنهض لتيسيرها طائفة منهم من ذوي الحكمة و الأهلية و الخبرة و المعرفة الفنية و الاستقامة الأخلاقية و القبول المُجتمعي.

١١. و لأنّ السودان، مثله مثل غيره من البلدان، ليس جزيرة معزولة في محيط من الدُول و الأقاليم فلا يمكننا، إن لم يكن يلزمنا، إلا أن تجري هذه الترتيبات بقدرٍ من التفاهم مع أيّة أطراف خارجية يرى أهل الشأن أن الحكمة تقتضي تفاهماً معها. هذا الانخراط الدولي لإيقاف الحرب، و ترتيبات ما بعدها، يحدّده السُودانيون و السُودانيات وفقاً لما يعزز المصلحة العُمُومية السُودانية.

محمّد محجوب هارون
مدير أسبق لمعهد أبحاث السلام،
جامعة الخرطوم
الثالث من سبتمبر ٢٠٢٣

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى