محمد عثمان النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي: (6 من 13)التعليم الذكي والتعلم الشخصي

محمد عثمان النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي: (6 من 13)التعليم الذكي والتعلم الشخصي
لم يعد التعليم في القرن الحادي والعشرين مجرد فصلٍ دراسي، وسبورة، وكتاب، ومعلم يلقي، وطلاب يستمعون. هذا النموذج القديم الذي عاش أكثر من مائة عام كان حلًا اضطراريًا لعصور الشح، لكنه لم يعد قادرًا على إنتاج أجيال تنافس في عالم يتغيّر بسرعة الضوء. فالتعليم أصبح منظومة رقمية تُبنى على البيانات أكثر مما تُبنى على المقررات، وعلى المهارات أكثر مما تُبنى على الحفظ، وعلى التعلم الشخصي أكثر من التلقين الجماعي. والتحول إلى التعليم الذكي لم يعد اختيارًا، بل ضرورة وجودية لأي دولة تريد أن تحجز مكانًا في مستقبل العالم.
فالطالب الذي يجلس في الصفّ الأخير لا تقل قدرته ولا ذكاؤه عن الذي في الصف الأول، لكنه ضحية نموذج لا يرى الفروق الفردية. أما التعليم الذكي، فيتعامل مع الطالب كفرد له بصمة تعلم خاصة، ويمنحه ما يناسبه بالضبط: دروسه، تدريباته، سرعته، نقاط ضعفه، وطرائق تطوره. ليس الطلاب سواء، فلماذا نجبرهم على التعلم بالطريقة نفسها؟
والذكاء الاصطناعي هنا ليس بديلاً عن المعلم، بل أداة تُحرره من المهام الروتينية، وتتيح له التركيز على جوهر دوره: التوجيه، والتحفيز، وتصحيح المسار. فهو يحلّل أداء الطالب، ويكتشف نقاط ضعفه، ويقترح له محتوى مناسبًا، ويمنحه مسارًا متدرجًا يتطور معه أسبوعًا بعد أسبوع.
وفي البلدان التي نجحت في هذا التحول — مثل إستونيا وسنغافورة ورواندا — أصبح الطالب يتعلم وفق “بصمة تعلم” خاصة به، يعرف من خلالها النظام متى يتقدم، ومتى يتباطأ، ومتى يحتاج إلى مراجعة. التعليم هنا يصبح عملية دقيقة تشبه ما يفعله الطبيب في خطته العلاجية: تدخلات فردية لا روتينًا جماعيًا.
وفي السودان، يمكن للتعليم الذكي أن يكون أداة إنقاذ حقيقية. فنقص المعلمين في بعض المناطق، وضعف التدريب، وسوء توزيع الكوادر، وازدحام الفصول، كلها مشكلات يمكن للتقنية أن تخفف حدتها أو تعالجها. فمع منصة تعليم وطنية، يمكن للطالب في دارفور أن يتلقى الدرس نفسه الذي يتلقاه زميله في الخرطوم، ويمكن للمعلم المتميز أن يصل شرحه إلى مليون طالب بدل ثلاثين فقط، ويمكن للمواد العلمية أن تُحسّن جذريًا عبر محتوى مرئي وتفاعلي يشرح المعقد ويبسط الصعب.
كما يفتح التعليم الذكي بابًا واسعًا لاقتصاد جديد: منصات للدروس القصيرة، تطبيقات للمراجعة، خدمات التحضير، محتوى تعليمي تفاعلي، وأدوات رقمية لتعلم الرياضيات والعلوم بطرق فعالة. ويمكن لشركات صغيرة محلية أن تبني مكتبات رقمية، وتطبيقات للتمرين، وأدوات للفهم والتدريب لم تكن ممكنة قبل سنوات قليلة.
ويسمح هذا النموذج بجمع بيانات وطنية دقيقة حول الأداء: أي المواد تتراجع؟ أي الصفوف تعاني ضعفًا؟ أين نحتاج إلى تدريب إضافي؟ أين يوجد نقص في المعلمين؟ هذا النوع من التعليم يجعل التخطيط شأنًا علميًا، ويمنح الدولة القدرة على التدخل السريع بدل انتظار نتائج الامتحانات التي تأتي بعد فوات الأوان.
ومع امتداد هذه المنظومة، يصبح الامتحان نفسه عملية دقيقة تُقاس فيها مهارات الفهم والتطبيق والتحليل، لا مجرد الذاكرة. فالامتحان الذكي لا يختبر ما حفظه الطالب، بل ما تعلّمه.
وهكذا يتحول التعليم من عملية جامدة إلى منظومة حيّة تتطور مع كل طالب، ومن عبء على الأسرة إلى استثمار في المستقبل، ومن نظام متدهور إلى نظام ذكي قادر على خلق جيل يليق بالتحديات القادمة. فالدول لا تنهض إلا حين ينهض تعليمها، والتعليم لا ينهض إلا حين يتحول إلى منظومة رقمية مرنة تواكب العصر.
وهذا المقال يأتي خطوة سادسة في سلسلة تمتد إلى ثلاثة عشر مقالًا نعيد فيها تعريف علاقة السودان بالتقنية، ونوضح كيف يمكن للتعليم الذكي أن يكون حجر الأساس في نهضة شاملة تقوم على المعرفة والإبداع والمهارة.




