مقالات

محمد عثمان النبوي يكتب:.. بهدوء و تدبر..التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي: (10 من 13) القضاء الرقمي والحكومة الذكية

 محمد عثمان النبوي يكتب:.. بهدوء و تدبر..التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي: (10 من 13) القضاء الرقمي والحكومة الذكية

 

 

ليست قوة الدولة في عدد قوانينها، بل في قدرتها على تطبيقها. وليست هيبة القضاء في مقراته، بل في عدالته وسرعته وشفافيته. وحين يتأخر الحكم، أو تضيع الملفات، أو تتوه المستندات بين المكاتب، أو تتعطل الجلسات بسبب غياب ورقة أو موظف، فإن العدل — مهما كانت النصوص مثالية — يصبح شكليًا، ويضيع جوهر الدولة نفسه. لذلك فإن التحول نحو القضاء الرقمي والحكومة الذكية ليس خطوة تقنية، بل هو تأسيس جديد لميزان العدل في المجتمع، وضمان وصول الحقوق إلى أصحابها بلا تأخير ولا فوضى.

فالقضاء الرقمي يبدأ من لحظة يظنها الناس بسيطة: ملف القضية. هذا الملف الذي كان ورقًا يضيع، أو يتحرك ببطء، أو يقف في رفّ مهمل، يتحول في المنظومة الرقمية إلى سجل محكم لا يمكن العبث به، ولا يمكن إخفاؤه، ولا يمكن أن تتسرب منه ورقة. كل شيء فيه محفوظ، ومؤرخ، ومؤتمن، ويمكن الوصول إليه في أي لحظة. وهذه الخطوة وحدها تختصر سنوات من المعاناة، وتغلق أبوابًا كانت مفتوحة للضياع والتسويف والابتزاز.

ثم تأتي الجدولة الذكية للجلسات، حيث يعرف القاضي والمحامي والمتقاضي موعد الجلسة عبر هواتفهم، ويصلهم إشعار بالتغيير، وتُدار المواعيد بناءً على خوارزميات تراعي عدد القضايا، وتوزيع القضاة، ووقت كل جلسة، وتضغط تلقائيًا على الأماكن المتراخية لتقليل التأخير. هكذا يصبح القضاء مؤسسة تعمل بدقة، لا بمزاج اليوم ولا بعشوائية الورق.

ويمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد القضاة في فرز نوع القضايا، واستخراج السوابق المشابهة، وتحليل المستندات الطويلة، وترتيب الحجج، واكتشاف التناقضات. ليس ليصدر الحكم، ولا ليحل محل القاضي، بل ليكون أداة مساعدة تمنح القاضي وقتًا أكبر للتفكير في جوهر القضية بدل إضاعته في الأعمال الروتينية التي يمكن للنظام أن يتولاها بدقة أعلى. وهكذا يُستخدم الذكاء الاصطناعي في موضعه الصحيح: دعمٌ للقرار لا استبدال لصاحبه، وتسهيلٌ للعمل لا تدخلٌ في سلطته.

والجلسات نفسها يمكن أن تصبح أكثر مرونة عبر التقاضي الإلكتروني في القضايا البسيطة، وعبر الاستماع عن بُعد لبعض الشهود، وعبر تبادل المذكرات إلكترونيًا. وهكذا تنفتح أبواب القضاء لمن يعيشون بعيدًا عن المدن الكبرى، أو لمن تعيقهم الظروف الصحية، أو لمن لا يستطيعون الحضور في الزمن المناسب. فالمحكمة الرقمية لا تنتقص من هيبة القضاء، بل تحمي هيبته من العبث الإداري، وتعيد له الانضباط الذي يستحقه.

أما الحكومة الذكية فهي الوجه الآخر لهذه المنظومة. حكومة تعمل بمنطق الخدمة لا السلطة، وتبني قراراتها على البيانات لا التقارير الورقية، وتراقب أداء مؤسساتها لحظة بلحظة، وتستخدم الذكاء الاصطناعي لاكتشاف الأخطاء مبكرًا قبل أن تتحول إلى أزمات. الحكومة الذكية ليست حكومة تضع “بوابة إلكترونية”، بل حكومة تعرف المواطن من خلال هويته الرقمية، وتقدم له الخدمة كما تقدمها أفضل الشركات الخاصة: بسهولة، وسرعة، وشفافية، واحترام.

وحين تكون الحكومة ذكية، يصبح الفساد أصعب، لأن البيانات تكشف كل شيء: من ارتفاع مفاجئ في منصرفات جهة ما، إلى تكرار ملف في مؤسسة أخرى، إلى تأخر غير مبرر في معاملة معينة. وحين تكون الحكومة ذكية، يصبح التخطيط أسهل، لأن الأرقام متوفرة لحظة بلحظة: كم طالب في المدرسة؟ كم مريض في المستشفى؟ كم شاحنة عبرت الطريق؟ كم طنًا من القمح وصل إلى الميناء؟ وكل هذا يصنع فرقًا كبيرًا في إدارة الدولة.

وفي السودان، يمكن للقضاء الرقمي والحكومة الذكية أن يعالجا أمراضًا عمرها عقود: بطء الإجراءات، ضياع الملفات، الرشاوى الصغيرة، التكدس، سوء التنسيق بين المؤسسات، ضعف التخطيط، وعدم وضوح البيانات. وهذه المنظومة لا تحتاج إلى ميزانيات ضخمة، بل إلى رؤية واضحة، ونظام واحد، وهيكل موحد، وتدريب صحيح، وإرادة سياسية تعرف أن العدل لا يُصنع بالورق، بل بالنظام.

وتظهر في هذه البيئة شركات صغيرة تستطيع خدمة الحكومة نفسها: شركات للأرشفة، وشركات للجدولة الذكية، وشركات لتحليل البيانات، وشركات لتطوير بوابات الدفع، وشركات للتوقيع الإلكتروني، وشركات لتطوير حلول العدالة الرقمية. وهكذا يصبح القطاع الخاص شريكًا في بناء الدولة، لا منافسًا لها، ويتحول التحول الرقمي إلى صناعة وطنية قائمة بذاتها.

القضاء الرقمي يعيد الثقة. والحكومة الذكية تعيد الانضباط. والبيئة الرقمية تعيد الاحترام بين المواطن ومؤسساته. وهذه الثلاثة — حين تجتمع — تصنع دولة حديثة يمكن أن تقف شامخة في عالم لا يحترم البطيئين، ولا ينتظر المترددين.

وهذا المقال يأتي خطوة عاشرة في سلسلة تمتد إلى ثلاثة عشر مقالًا، نوضح فيها كيف يمكن للتقنية أن تبني دولة عادلة شفافة، لا بالخطابات ولا بالشعارات، بل بالأدوات التي تمنع الفوضى، وتُسرّع العدالة، وترفع كفاءة الإدارة العامة.

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى