مقالات

 محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: مدينة الإنتاج الحيواني : طموح كبير وعقبات قاتلة

 محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: مدينة الإنتاج الحيواني : طموح كبير وعقبات قاتلة

 

نخاف على هذا المشروع الطموح أن تأكله العقبات الضخمة فاغرة أفواهها لتبتلعه ويموت في البيئة العامة الخانقة التي يمثلها اقتصاد السودان المكبل بالقيود والذي يمنع حدوث اي نهضة كالتي يستهدفها مشروع مدينة الانتاح الحيواني بولاية نهر النيل ، التي أعلن عن قيامها وزير الثروة الحيوانية والسمكية الدكتور أحمد التجاني ضمن خطة وزارته الاستراتيجية .

المشروع المعلن متكامل ، تضم مكوناته مزارع للأبقار والضأن والماعز والإبل ، ومصانع للحوم ومنتجات الألبان والجلود ، مع الحصول على شهادات عالمية تضمن الجودة والانتشار في الأسواق العالمية .

¶ من حيث الفكرة فإن المشروع يمثل نقلة نوعية مطلوبة بشدة ، ويتصف بمزايا عظيمة يمكن أن تضع السودان على الطريق الصحيح في استثمار ثروته الحيوانية الهائلة .
وفي نفس الوقت تهدده عقبات كبيرة يمكن أن تضعف كثيراً من الفائدة المرجوة منه وربما تؤدي إلى ذبوله في النهاية .

¶ وميزات هذا المشروع الكبير والمهم تشمل :
*المشروع فرصة لإعادة هيكلة قطاع كامل يملك فيه السودان ميزة نسبية عالمية ، فالسودان يمتلك أكبر قطيع حيواني في المنطقة بأكثر من مائة مليون رأس ، لكنه يصدرها حية بخسارة فادحة ، بينما تستورد الأسواق الخليجية والمصرية والأوروبية اللحوم المذبوحة والمصنعة من دول أخرى . ويعني الانتقال من تصدير الحيوانات الحية خاماً إلى صناعة متكاملة ترفع القيمة المضافة ، وتضاعف العائدات بالعملة الصعبة .

*المشروع يحول السودان من مصدر خام إلى منافس قوي في سوق اللحوم العالمية، خاصة إذا نُفذت المعايير الصحية والبيطرية والبيئية بدقة.
*يحمل بعداً استراتيجياً يتجاوز الاقتصاد إلى السياسة ، فهو قادر على جذب شراكات إقليمية ودولية ، خصوصاً مع الدول العربية التي تبحث عن أمن غذائي مستدام .

*يرفع مستوى التمويل والخبرة التقنية
ويمكن من إدخال آليات مثل الاستثمارات الخليجية أو الشراكات مع شركات آسيوية وأوروبية مما يجعل من السودان حلقة رئيسية في سلاسل القيمة العالمية .
*المشروع صناعة وطنية ضخمة ومستدامة ، تجعل من السودان مركزاً إقليمياً للإنتاج الحيواني والتصنيع الغذائي ، وتفتح أمامه أبواباً واسعة للأسواق العالمية بثقة ، وتضمن أن يكون النجاح في هذا المشروع مدخلاً لنجاح غيره من المشروعات التنموية الكبرى .
*تحفيز سلاسل إنتاج مرتبطة بالزراعة والصناعات التحويلية.

ويصبح منصة لنهضة صناعات موازية : صناعة الأعلاف المحلية ، صناعة الأدوية البيطرية ، تصنيع المعدات الزراعية والبيطرية ، تطوير النقل المبرد واللوجستيات . هذه الصناعات الداعمة تعني توسعاً في فرص العمل ، وزيادة في الصادرات .
*توفير فرص عمل في ظروف البطالة الواسعة التي تشهدها بلادنا كماً ونوعاً .

*تحفيز البحث العلمي في الجامعات والمراكز البيطرية في مجالات الانتاج الحيواني وتطويرها .
*إدماج الرعاة وصغار المنتجين وتطوير حظائرهم ، ودمجهم في سلسلة إنتاج حديثة ترفع إنتاجيتهم ودخلهم ، وتنتشلهم من دوائر الفقر والتهميش . وإدماجهم ليس مسألة عدالة اجتماعية فحسب ، إنما هي ضرورة لضمان استقرار المشروع ، فالرعاة هم أصحاب المصلحة المباشرة ، وإذا أُهملوا فلن ينجح أي استثمار في هذا المجال مهما كان حجمه ومهما كانت المقومات المتوافرة له .

*تعزيز موقع السودان في معادلات البحر الأحمر، بقيام مدينة إنتاج بهذا الحجم في ولاية نهر النيل ، قرب الموانئ وممرات التجارة ، مما يمنحه ورقة قوة إضافية في علاقاته مع محيطه العربي والإفريقي ، إذ يقدّم نفسه كمركز إمداد حيوي للدول الباحثة عن الأمن الغذائي . وهذا يفتح المجال لشراكات أوسع مع مصر والسعودية ، بل وحتى مع الاتحاد الإفريقي .

¶مشروع كهذا يمكن أن يقلب المعادلة إذا توافرت له البيئة الصحيحة والشروط الاساسية اللازمة لنجاح أي استثمار . لكن تواجه هذا المشروع المتميز عقبات يجب النظر إليها بجدية وتذليلها منذ البداية .
أما إذا جرى تنفيذه في البيئة المقيدة الراهنة ، إن تيسر تمويله ، وما اعسر ذلك فى واقعنا المشهود ، فقد يحقق بعض النجاحات الجزئية ، لكن هذا النجاح سيظل محدوداً ومقصوراً على نطاق ضيق ، وسرعان ما يتآكل بفعل المعوقات الهيكلية نفسها التي عطّلت مشروعات سابقة.

أما المعوقات التي تحول دون نجاحه بالصورة المأمولة فهي :
*بيئة التنفيذ معوقة وغير مهيأة للنجاح فالاقتصاد السوداني ما يزال مكبلاً بالقيود المنفرة للاستثمار الطاردة للمستثمرين . *أجهزة الدولة تعمل بنظم عفا عليها الزمن تسيطر عليها بيروقراطية عقيمة تعقد الإجراءات وتعسر تنفيذ العمل .
*كثرة الرسوم وتعدد الجبايات ، المحلية والقومية .
*ضعف البنية التحتية اللازمة لمثل هذه المشروعات من خدمات الكهرباء والطرق .

¶ غير أن الطريق إلى النجاح ليس مغلقاً فهناك خطوات محسوبة تمكن من انطلاق المشروع بقوة وتحقق كل النتائج المرجوة منه ، وهي لازمة ينبغي ان تكون متلازمة متزامنة وهي :
*التحرير الشامل للإقتصاد بما يجعله متوائما مع منظومة الإقتصاد العالمي ويوفر الأمان والطمأنينة للمستثمر المحلي والأجنبي ويضمن تدفق الاستثمارات التي تموله بصورة مثلى ، ويتيح إقامة كل مشروعات البنى التحتية الداعمة من طرق وكهرباء وموانئ وسلاسل تبريد، عبر صيغ تمويل حديثة مثل عقود BOT أو PPP وغيرها من الشراكات التي تجمع بين الدولة والقطاع الخاص والمستثمر الأجنبي.
*تيسير الإجراءات والقضاء علي البيروقراطية المعوقة وسد الباب أمام الفساد والخلل الإداري بضبط أداء أجهزة الدوله كلها بنظم رقمية موحدة
تضبط الإنتاج والتصدير والجمارك .

*توحيد سعر الصرف ووقف الإزدواجية فيه التي تقيد حركة رأس المال وتمثل عائقاً أمام أي استثمار خارجي جاد .
*إقامة المشروع على أسس الاستدامة البيئية ، من حيث إدارة المراعي ومنع الرعي الجائر ، وحماية مصادر المياه ، ومعالجة المخلفات الحيوانية وتحويلها إلى أسمدة وغاز حيوي ليتحول المشروع إلى نموذج عالمي في الاقتصاد الأخضر ، فيستفيد ليس فقط من عوائد اللحوم والجلود والألبان ، بل من عوائد تجارة الكربون والتمويل المناخي الدولي .
*تهيئة البيئة للمستثمر بقوانين واضحة سهلة النفاذ ، وآمنة من حيث التحويلات المالية وأمان حرية التملك .
¶ أن مشروع مدينة الإنتاج الحيواني إذا ارتبط بتحرير الاقتصاد ورقمنته وتوفير بيئة استثمارية شفافة ومستقرة ، يمكن أن يتحول إلى نقطة انعطاف تاريخية لقطاع الثروة الحيوانية وللاقتصاد السوداني
تضمن أن يكون هذا المشروع بداية لمسار متواصل لا محطة عابرة .
أما إذا ظل حبيس بيئة مقيدة، فسيبقى نجاحه محدوداً عابراً، لا يلبث أن يتبدد أمام معضلات الهيكل الاقتصادي الراهن.

إشتياق الكناني

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى