محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..الخدمات الصحية التدهور وصعوبات الإصلاح

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..الخدمات الصحية التدهور وصعوبات الإصلاح
التدهور الذي يشهده القطاع الصحي في بلادنا لم يكن وليد اللحظة إنما هو تراكم لآثار سنين من التردي والإهمال والتخبط في إدارته والسياسات الخاطئة.
وقد أفرز كل ذلك وضعاً صحياً سيئاً عاش في ظله المواطن في ظروف صحية وعلاجية صعبة وعانى الأمرين من ارتفاع تكاليف العلاج وصعوبة الحصول على خدمة طبية متطورة وتردي الخدمات التشخيصية والعلاجية وندرة الكوادر الطبية ذات الكفاءة العالية
وتركيز الخدمات في العاصمة والمدن الكبرى.
عرف السودان مبكراً نظاماً صحياً متقدماً نسبياً في المنطقة. فمنذ عهد الاستعمار، ثم بعد الاستقلال، كان قطاع الصحة من أول القطاعات التي نُظّمت إدارياً وقانونياً، وأنشئت له إدارات ومجالس مهنية، وتأسست المستشفيات المرجعية، وانتشرت المراكز الصحية، وخرجت الكوادر المؤهلة من كليات الطب والتمريض والمهن الصحية المساعدة.
ففي سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، كان السودان مصدراً للكوادر الصحية للدول العربية والإفريقية، وكانت مستشفياته الحكومية منارات رعاية، ومراكزه الصحية الأساسية – رغم تواضع الموارد – تقدم خدمةً أولية حقيقية في مختلف الولايات.
ولأن صحة المواطن هي حجر الزاوية في كل بناء تنموي، فإن النظر في قطاع الخدمات الصحية لا يكون نظرة إجرائية فقط، بل رؤية تأسيسية لإعادة تموضع الدولة نفسها حيث لم تكن الخدمات الصحية في السودان يوماً مجرد مؤسسات علاجية، بل كانت – وينبغي أن تكون – مكوناً استراتيجياً من بنية الدولة القوية الضامنة لسلامة الإنسان وجودة حياته، وسلامة المجتمع واستدامة نهضته.
وقد بدأت الانهيارات حين تغوّلت الدولة على استقلال المؤسسات الصحية، وخلطت بين الخدمات والسياسة، وغيّبت الكفاءات، وفُتحت أبواب التوظيف الحزبي على حساب الجدارة. ثم جاء مشروع الخصخصة المشوّه في بيئة غير محررة الذي أضعف البنية الحكومية، فضعف المستشفى العام، وازدادت الهجرة، وتآكلت منظومة التأهيل، وتراجعت ميزانيات الصحة بشكل خطير.
ومن أبرز مظاهر التدهور :
*تهالك البنية التحتية للمستشفيات والمراكز الصحية.
*ضعف تجهيزات التشخيص والعلاج، واعتماد المواطنين على القطاع الخاص.
*نزيف الكوادر المؤهلة إلى الخارج، لضعف الرواتب وغياب بيئة العمل.
*ضعف توزيع الخدمة الصحية بين العاصمة والولايات.
*قصور في نظم المعلومات والإدارة والتخطيط الصحي.
*تعدد جهات اتخاذ القرار وتضارب الاختصاصات بين الاتحادي والولائي.
*غياب التمويل المستدام، واعتماد مفرط على المنح والإعانات.
◀️ لا يمكن بناء دولة قوية دون قطاع صحي حكومي متماسك، يؤمن بحق الإنسان في الرعاية الصحية الأولية والعلاج المجاني في حالات الطوارئ، ويوفر خدمات حديثة بأسعار مقدور عليها.
◀️ ولعلاج قطاع الخدمات الصحية والنهوض به من وهدة التخلف والتردي لا بد من توفر مجموعة مقومات متكاملة متزامنة تؤدي إلى نهضة حقيقية وتشمل :
📌 مستشفيات حكومية حديثة مجهزة بتقنيات تشخيص وعلاج متطورة.
📌 شبكة مراكز رعاية صحية أولية تغطي كل مدن وقرى السودان.
📌 نظام معلومات صحية مركزي يربط كل مؤسسات القطاع بقاعدة بيانات رقمية.
📌 رفع أجور العاملين في القطاع الصحي وفق سلم عادل ومحفز.
📌 سياسات صارمة لتوزيع الكوادر حسب الحاجة الفعلية لكل ولاية.
📌 إعادة الاعتبار للبحث العلمي الطبي وتمويل البحوث الصحية التطبيقية.
📌 إنشاء مجلس أعلى للخدمات الصحية لضمان الاستقلال المهني وتكامل الأداء.
📌 تطبيق برامج الزمالة والتدريب المستمر وفق معايير دولية.
📌 تشجيع الاستثمار الخاص الصحي في المجالات المساندة وليس في الضروريات.
📌 ضمان استقلال القرار الفني الصحي عن التجاذبات السياسية والبيروقراطية.
◀️ ولا يمكن حل مشكلات هذا القطاع الحيوي في بيئة مختلة
حيث لا يمكن نهضة للقطاع الصحي في ظل إقتصاد مكبل بالقيود عاجز عن الوفاء بمتطلبات توفير وتطوير الخدمات وفي ظل دولة تعمل أجهزتها ببروقراطية عقيمة وأداء عاجز وانفراط في نظم الرصد والمتابعة والمراجعة وفساد مستشر.
وستظل الرغبة في تطوير الأداء حبيسة الأمنيات، ما لم يتم تحرير الإقتصاد تحريراً حقيقياً كاملاً يرفع القيود ويُطلق الاستثمارات، لتتوفر الموارد الكافية للدولة لبناء مستشفيات وتوفير أدوية وأجهزة ورواتب محترمة وحتى لا يبقى النظام الصحي رهينا للهبات والتمويل الخارجي.
والمال وحده لا يكفى فلابد أن يتزامن تحرير الأقتصاد مع ضبط صارم لأداء جميع أجهزة الدولة بما فيها القطاع الصحي عبر أنظمة رقمية توقف الفوضى والفساد والمحسوبية.
نحتاج إلى أنظمة شفافة محكمة لإدارة المرافق الصحية، وإسناد المهام بالكفاءة لا الولاء، وربط كل الجهات الصحية بشبكة رقمية واحدة، تضمن الجودة وتُيسر الرقابة.
لن تعود الخدمات الصحية إلى مكانتها، إلا إذا عادت الدولة إلى رشدها، فحررت اقتصادها، وبنت أنظمتها، ورفعت راية القانون، وثبتت مبدأ التخصص، واستقلت عن التسييس.
عندها فقط .. تشفى البلاد، وتبرأ الجراح.
محمد عثمان الشيخ النبوي