مقالات

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب:.. بهدوء و تدبر..وما أدراك ما الشفرة الوراثية DNA؟ (9 من 10) ورش الإصلاح: حين يُرمّم الجسد نفسه

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب:.. بهدوء و تدبر..وما أدراك ما الشفرة الوراثية DNA؟ (9 من 10) ورش الإصلاح: حين يُرمّم الجسد نفسه

 

 

إذا كان الجسد يعرف عدوه من صديقه كما رأينا في منظومة المناعة، فإن ما هو أعمق من ذلك هو أنّ الجسد يُصلح نفسه بنفسه، وكأن في داخل كل خلية ورشة كاملة للترميم تعمل ليلًا ونهارًا دون توقف. ولو توقفت هذه الورش لحظة واحدة لانتهت الحياة؛ لأن الخلية لا تمضي دقيقة إلا وتتعرض لعدد هائل من الأخطاء الجزيئية، بعضها بسبب التفاعلات الطبيعية، وبعضها بسبب الأشعة، وبعضها بسبب الحرارة، وبعضها مجرد نتيجة لحركة الزمن. ومع ذلك، لو نظر الإنسان إلى جسده لما رأى أثرًا لكل هذا الخراب؛ لأن ورش الإصلاح تعمل عملًا متواصلًا وسريعًا ودقيقًا، تُصحّح الخطأ قبل أن يشعر الإنسان به.

ففي كل لحظة، تتعرض جزيئات الـDNA لآلاف الشقوق الصغيرة، بعضها يقطع الخيط الوراثي، وبعضها يشوّه حرفًا من حروفه. وهذه الأخطاء — لو تُركت بلا إصلاح — لهلكت الخلية في ساعات، ولانهار الجسد في أيام. لكن الخلق قائم على الرحمة، فجعل الله في كل خلية فرقًا دقيقة تبحث عن الأخطاء بلا كلل. فهناك بروتينات تجوب الشفرة بحثًا عن العطب، فإذا وجدت حرفًا خاطئًا قطعته واستبدلت به الحرف الصحيح. وإذا وجدت شقًا في السلسلة رقّعته كما يرقّع النسّاج خيوط ثوبه. وإذا وجدت خطأ في النسخة الجديدة من الـDNA أعادت النسخ من جديد، وكأن نظامها لا يسمح بأن يخرج كتاب الحياة إلا كاملًا بلا نقص.

ومن أعجب هذه الورش نظام «الإصلاح بعد النسخ». ففيه تقوم الخلية بمراجعة الـDNA بعد نسخه مباشرة، فتقارن النسخة بالأصل حرفًا حرفًا. فإن وجدت عدم تطابق، أوقفت العملية كلها وأصلحت الخطأ قبل السماح بانقسام الخلية. وهذا الضبط الصارم يمنع تكرار الأخطاء، ويحفظ الجسد من الانهيار، ويجعل الأمانة الوراثية محفوظة عبر الأجيال.

وليس الـDNA وحده ما يحتاج إلى إصلاح، بل البروتينات كذلك. فالبروتين الذي يخرج غير مطويٍّ على صورته الصحيحة يُرسل إلى «غرفة التصحيح»، حيث تأتي بروتينات أخرى تعرف شكل الطيّ السليم وتحاول إعادة تشكيله. فإن نجحت عاد البروتين إلى وظيفته، وإن فشلت أُرسل إلى «مصنع التفكيك» حيث يُكسَّر إلى أجزائه الأولى، لتُعاد صناعة بروتين جديد من مادته. وهكذا لا يسمح الجسد لبروتين فاسد بالبقاء، ولا لخلل صغير أن يتحول إلى انهيار عظيم، لأن الإصلاح جزء أصيل من طبيعة الخلق.

وإذا نظر الإنسان في كل هذا أدرك أن الحياة ليست عملية ميكانيكية صمّاء، بل هي رحمة تسري في كل خلية؛ فالله لم يخلق الخلية ثم يتركها تتآكل، بل أودع فيها قدرة دائمة على تجديد نفسها. فالترميم جزء من البقاء، والإصلاح جزء من الرحمة، وتجديد ما فسد جزء من سنن الله في الكون. وهذا النظام نفسه هو ما يمنح الجسد شبابه، ويُكسِبه القدرة على الشفاء، ويعيد إليه التوازن كلما اختل.

ولكن هذه الورش — على عظمتها — ليست بلا حدود؛ فإذا طغى الفساد على الخير، أو زاد الخراب على القدرة، أو غلب المرض على الإصلاح، انهارت الخلية، ثم ينهار النسيج، ثم ينهار العضو. وهنا يفهم الإنسان معنى قوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾، لأن الخلية مهما أصلحت نفسها، فإن العمر محدود، والقدرة محدودة، والفساد حين يشتد يحلّ أجله. ومع ذلك، يبقى نظام الإصلاح شاهدًا على الرحمة؛ لأن الجسد لا ينهار فجأة بلا إنذار، بل يمنح الإنسان وقتًا — عبر الألم والضعف والإنهاك — ليشعر بالخطر ويحتمي.

وإذا نُقل هذا المعنى إلى حياة الأمم، أدرك الإنسان أن الإصلاح ليس رفاهية ولا ترفًا فكريًا، بل ضرورة للبقاء. فالمؤسسات، مثل الخلايا، تحتاج إلى منظومات ترميم تُصلح الأخطاء فور وقوعها قبل أن تتحول إلى فساد عام. والأمم التي لا تمتلك هذه الأنظمة — أنظمة المراجعة، والتقويم، والمحاسبة — هي أمم تسير نحو الهلاك ببطء؛ لأن الخطأ الصغير حين لا يُصحَّح يتكاثر، والخلل حين يُهمَل يستفحل، والفساد حين يصمت الناس عليه ينتشر حتى لا تبقى خلية سليمة في الجسد كله. أما الأمم التي تملك ورش إصلاح — قانونًا عادلًا، وحوكمة دقيقة، ورقابة نزيهة، وصوتًا حرًا — فهي الأمم التي تتجدد كما تتجدد الخلايا، وتستعيد قوتها مهما أصابها الضعف، لأن الإصلاح سرّ الحياة في الجسد، وسرّ النهضة في الأمة.

إن ورش الإصلاح التي أودعها الله في الخلية ليست مجرد ضرورة بيولوجية، بل هي كشفٌ جديد لمعنى قوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ﴾. فالخالق لم يهدِ الخلية إلى وظيفتها فحسب، بل هداها كذلك إلى إصلاح نفسها، حتى تدوم الحياة بقدر ما شاء الله لها أن تدوم. وهكذا يفهم الإنسان أن الرحمة ليست فقط فيما نراه، بل فيما لا نراه؛ في الترميم الذي يحدث بلا توقف، وفي الإصلاح الذي يجري دون وعي منا، وفي العناية التي تُنقذنا كل يوم ونحن لا ندري.

وفي الجزء القادم (10 من 10)… سنصل إلى الذروة: كيف تجتمع هذه الأنظمة كلها — القراءة، والترجمة، والتمييز، والمناعة، والاتصال، والإصلاح — لتقدّم الدليل النهائي على أن الخلق لم يكن صدفة، وأن العلم لا يقود إلا إلى الإيمان، وأن أصغر خلية في الجسد تحمل شهادة الكون كله.

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى