محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..وما أدراك ما الشفرة الوراثية DNA؟ (8 من 10) الزمن الخفي… والحارس الذي لا ينام

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..وما أدراك ما الشفرة الوراثية DNA؟ (8 من 10) الزمن الخفي… والحارس الذي لا ينام
من أعجب أسرار الشفرة الوراثية (DNA) أنها لا تكتفي بأن تكون كتاب الخلق، ولا ذاكرة التجارب، ولا دستور التواصل بين الخلايا، بل تحمل أيضًا سرًّا آخر من أسرار الحياة: سرّ العمر. فالإنسان يكبر لأن شفرته تحمل نظامًا دقيقًا يُدير الزمن داخل الخلية؛ نظامًا يحدد عدد الانقسامات، ومدى القدرة على الإصلاح، وحدّ النمو، وحدّ الضعف، وحدّ النهاية. وكأن كل خلية تحمل ساعة داخلية لا تتوقف لحظة، تعرف من خلالها عمرها الحقيقي، وتتصرّف وفقًا له. في أطراف الكروموسومات توجد مقاطع دقيقة من الـDNA تُسمّى
«التيلوميرات»، وهي أغطية واقية تحمي نهايات الشفرة، تمامًا كالطرف البلاستيكي أو المعدني في نهاية رباط الحذاء الذي يمنع تفتّته. كلما انقسمت الخلية، يقصر التيلومير قليلًا، حتى يبلغ حدًّا لا يمكن تجاوزه. عندها تدخل الخلية مرحلة الشيخوخة، ثم النهاية. وهكذا يصبح عمر الخلية — وعمر الإنسان تبعًا لها — خاضعًا لنظام مكتوب، لا لعبث عشوائي. فالخلية لا تكبر فجأة، ولا تشيخ بلا قانون، بل تتدرّج وفق كتابة زمنية محكمة. وحين يتلف الـDNA بفعل الزمن أو البيئة، تُستنزف قدرات الإصلاح، وتتراكم الأخطاء الدقيقة، فيبدأ الجسد رحلته نحو الضعف. فالشيخوخة ليست
تجاعيد وآلامًا فحسب، بل «لغة جينية» تتكلم عن حدود البناء ونهاية الطاقة. وكلما ازداد العلم فهمًا لهذه اللغة، ازداد يقينًا بأن الخلايا لا تتحرك بلا نظام، بل وفق تاريخ مكتوب حرفًا حرفًا. وعند هذا الحدّ يظهر معنى قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ﴾ فالآية ليست وصفًا بلاغيًا فحسب، بل كذلك توصيفٌ سُننيٌّ دقيق لمراحل الخلق، تكشفها اليوم آليات بيولوجية — من بينها التيلوميرات — بإحكام مذهل. فكل خلية، مهما بلغت قوتها، تعرف الحدّ الذي يجب أن تقف عنده، وتلتزم به التزامًا مطلقًا. إنها طاعة فُطرت عليها، وهداية لا تنحرف. غير أنّ هذه السُنّة الزمنية شيء، والدهشة الكبرى شيء آخر. فرغم أن الخلية تعرف عمرها، وتستسلم حين ينتهي أجلها الجيني، فإن الجسد لا
يترك نفسه بلا حماية، بل يحمل داخله منظومة كاملة لا تنام، تتعقّب، وتراقب، وتتحقق، وتقاتل، وتضحي. إنها منظومة المناعة؛ الحارس الذي لا يهدأ. كل خلية في الجسد تحمل بطاقة تعريف سطحية تخبر جهاز المناعة أنها «من أهل الجسد». فإذا دخل فيروس، أو بكتيريا، أو سمّ، أو خلية مشبوهة لا تحمل هذه العلامة، تُعلن حالة الطوارئ. لكنّ المناعة لا تهجم بلا نظام، بل تمرّ بعدة مستويات دقيقة من التحري: خلايا للاستطلاع وجمع المعلومات، وخلايا لعرض «ملف الدخيل» على بقية الجهاز، وخلايا للتحليل والتصنيف، ثم وحدات للهجوم والمطاردة والتدمير والاحتواء. إنه عمل يشبه أجهزة الأمن في الدول القوية، لكنه يتم بسرعة مذهلة وعلى مدار اللحظة. والأعجب أن المناعة تملك ذاكرة؛ فإذا واجه الجسد عدوًا معينًا ثم شُفي منه، احتفظت بصورته في أرشيفها. فإذا عاد لاحقًا، تعرّفت
عليه في لحظة واحدة، وقضت عليه قبل أن يشعر الإنسان بوجوده. وهذا هو سرّ اللقاحات: نحن لا نُدخل قوة جديدة إلى الجسد، بل نُدرّب جهاز المناعة، كما تُدرّب الدول جيوشها على مواجهة عدو معلوم. وما يزيد الأمر إدهاشًا أن جهاز المناعة يعرف التمييز: لا يهاجم البكتيريا النافعة في الأمعاء، ولا يعتدي على الخلايا السليمة، لكنه يقضي على الخلايا المنحرفة — السرطانية أو الفاسدة — فور ظهورها. هذه القدرة على التمييز بين الذات وغير الذات آيةٌ دقيقة، لو اختلّت لانقلب الجسد على نفسه، إمّا بمرض مناعي ذاتي، أو بعدو خارجي لا يجد مقاومة. وميزان المناعة ميزان بالغ الدقة؛ فإذا ضعفت هلك الإنسان، وإذا اشتدت بلا ضابط تحوّلت إلى أداة تدمير ذاتي. إنه ميزان الاعتدال الذي يحفظ الحياة، لا إفراط فيه ولا تفريط. وقد حاول العلماء محاكاة منظومة المناعة في أمن الشبكات والذكاء
الاصطناعي وأنظمة التحذير المبكر، لكنهم عجزوا عن بلوغ هذا الإتقان. لأن ما يجري في الجسد يجري وفق قانون رباني: ملايين الخلايا تتحرك، كل خلية تعرف دورها، والقرارات تُتخذ بلا ضوضاء، والمعلومات تصل في لحظتها، والتضحية تُقدَّم بلا انتظار مقابل. كل ذلك يجري بلا عقل واعٍ، لأنه هداية فطرية مغروسة: ﴿ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ﴾ وإذا نُقل هذا المشهد إلى حال الأمم، بان المعنى بوضوح: فالأمة التي لا تملك قانونًا يحميها، وعدالة تنظّمها، ومؤسسات تميّز بين الصديق والعدو، ونظامًا يصحّح الخلل ويقاومه، هي أمة بلا مناعة، تُخترق بسهولة، وينتشر فيها الفساد كما تنتشر العدوى في الجسد الضعيف. أما الأمة التي تحمي نفسها بوعي، وعدل، وقضاء مستقل، وشفافية، وتعرف كيف تواجه الخطر دون أن تنقلب على ذاتها، فهي الأمة التي تمتلك «مناعة حضارية» تحفظ وجودها كما تحفظ المناعة الجسد. وهكذا يجتمع في الخلية أمران
عظيمان: ساعة الزمن التي تضبط الأعمار، وجيش المناعة الذي يحمي الحياة. وفي كل خلية آية، وفي كل نظام دليل، وفي كل دليل شاهد على أن الخلق لم يكن صدفة، بل كتابة محكمة: ﴿ حَتّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ وفي الجزء القادم (9 من 10)… سنرى كيف يُصلح الجسد نفسه بنفسه، وكيف تعمل «ورش الإصلاح» في الخلايا ليل نهار، في مشهد يكشف معنى الرحمة والإحكام في الخلق.من أعجب أسرار الشفرة الوراثية (DNA) أنها لا تكتفي بأن تكون كتاب الخلق، ولا ذاكرة التجارب، ولا دستور التواصل بين الخلايا، بل تحمل أيضًا سرًّا آخر من أسرار الحياة: سرّ العمر. فالإنسان يكبر لأن شفرته تحمل نظامًا دقيقًا يُدير الزمن داخل الخلية؛ نظامًا يحدد عدد الانقسامات، ومدى القدرة على الإصلاح، وحدّ النمو، وحدّ الضعف، وحدّ النهاية. وكأن كل خلية تحمل ساعة داخلية لا تتوقف لحظة، تعرف من خلالها عمرها الحقيقي، وتتصرّف وفقًا له. في أطراف الكروموسومات توجد مقاطع دقيقة من الـDNA تُسمّى




