محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب:.. بهدوء و تدبر..وما أدراك ما الـDNA؟ (5 من 10) اللغة والساعة: كيف يتواصل الجسد… وكيف يعرف زمنه؟

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب:.. بهدوء و تدبر..وما أدراك ما الـDNA؟ (5 من 10) اللغة والساعة: كيف يتواصل الجسد… وكيف يعرف زمنه؟
إذا كانت الخلية تحمل داخلها كتابًا كاملًا اسمه الـDNA، فإن حياتها لا تقوم على قراءة هذا الكتاب وحده، بل على أمرين متلازمين:
قدرتها العجيبة على التواصل مع ملايين الخلايا الأخرى،
وقدرتها على ضبط زمنها الداخلي؛ متى تبدأ، ومتى تنقسم، ومتى تتوقف، ومتى تموت.
فالجسد لا يحيا بخلايا صالحة فقط، بل بشبكة اتصال لا تنقطع، وبنظام توقيت خفي منضبط لا يخرج عن إيقاعه المحدد، يضبط هذا الكون الصغير الذي نحمله في أنفسنا.
فالخلية الواحدة لا تستطيع أن تعيش منعزلة، ولا أن تتخذ قرارًا بعيدًا عن بقية الجسد. إنّ ما يجري فينا في كل لحظة هو حوار صامت بين مليارات الخلايا: إشارات كيميائية، وهرمونات، وبروتينات تحمل رسائل قصيرة، وجزيئات صغيرة كأنها برقيات عاجلة؛ رسالة واحدة منها قد تكفي لتغيير نشاط خلية، أو إيقاف جين، أو تنشيط آخر. خلايا الدماغ تتواصل عبر نبضات كهربائية دقيقة، وخلايا المناعة
تتعرّف على العدو عبر بروتينات تحمل هوية خاصة، وخلايا الغدد ترسل أوامرها إلى خلايا بعيدة في ثوانٍ معدودة، والخلايا الجذعية تنتظر إشارة واحدة لتتحول إلى عظم أو عضل أو جلد. هذه ليست فوضى، بل منظومة اتصالات أعقد من أعظم شبكات الاتصالات الحديثة، بلا أسلاك ولا أبراج بث، لأنها مبرمجة في الجسد منذ اللحظة الأولى.
ومع هذا التعقيد الهائل، الذي يحكمه الـDNA بوصفه «دستور الحياة»، تظل الخلايا ملتزمة بحدود هذا الدستور: منه تنطلق الرسائل، وفيه تُكتب التعليمات، وبه تُضبط حدود الاتصال. إنّها لغة لا تُرى، لكنها مفهومة لكل خلية، ومعروفة لكل نسيج، دون تعليم مكتسب؛ لأن الخالق أحسن كلَّ شيءٍ خلقه ثم هدى، كما قال تعالى:
﴿ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ﴾
ولو توقفت الخلايا عن تبادل الإشارات لدقائق معدودة، لما استمر الجسد حيًا؛ لأن الاتصال الخلوي ليس ترفًا تنظيميًا، بل هو شرط الوجود نفسه. وكل خلل في هذه اللغة الخفية ينعكس مباشرة مرضًا ظاهرًا؛ فالسرطان مثلًا هو في جوهره خلل جسيم في منظومة الإشارات والتنظيم، تمرّد على لغة الجسد، وخروج على الدستور الوراثي، ورغبة من بعض الخلايا في العمل بمعزل عن المقود الجامع، متجاهلة إشارات التوقف وضوابط الانقسام. وحين تختل اللغة يضيع الفهم، وحين يضيع الفهم يختفي التناسق، وحين يختفي التناسق تظهر العلل.
وهنا تتجلّى دلالة الآية الكريمة بوضوح:
﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾
فاللغة التي تتخاطب بها الخلايا، والتي لم يعرف البشر دقائقها إلا في القرن العشرين، هي من مصاديق آيات الأنفس التي تتجدد دلالتها عبر الزمان؛ نظام لغوي، وإشارات موجّهة، وبرمجة محكمة، كلها تشهد أن الجسد ليس نتاج تفاعل أعمى، بل نتاج إرادة حكيمة صاغته، وكتبت له قانونًا، وضبطت علاقاته كما تُضبط نظم الدول.
ومثلما لا تنهض الخلايا إلا بالتواصل الصحيح، لا تنهض الأمم إلا إذا امتلكت لغة جامعة، ورؤية متناسقة، وقنوات اتصال مفتوحة بين مؤسساتها. فغياب التواصل في الدولة شبيه بانقطاع الإشارات بين الخلايا: يخلق أمراضًا اجتماعية واقتصادية وسياسية، ويجعل الكيان كله عرضة للاهتزاز. أما الانسجام في الاتصال فيصنع جسدًا واحدًا، كما يصنع الجسد الحيّ تماسكه عبر لغة خلاياه.
لكن الأمر لا يتوقف عند لغة الحياة، بل يمتد إلى زمن الحياة ذاته. فالخلية لا تعرف فقط ماذا تفعل ومع من تتواصل، بل تعمل وفق نظام توقيت دقيق يحدد متى تبدأ، ومتى تنقسم، ومتى تتوقف، ومتى تموت. تمر الخلية بدورة منضبطة يسمّيها العلماء «دورة الخلية»: نمو، ثم استعداد، ثم نسخ للـDNA، ثم مراجعة، ثم انقسام. ولكل مرحلة نقاط تحقّق صارمة، فإذا شكت الخلية في سلامة النسخة، أوقفت المسار حتى يُصلح الخلل، وإذا ارتابت في عنصر مشارك، عطّلت الدورة كاملة حتى يعود التوازن.
ولو اختلّ هذا الإيقاع اختلالًا يسيرًا، لانفرط النظام كله: زيادة الانقسام مرض، ونقصه ضعف، وتسارعه خلل، وتأخره عطب. ومع ذلك يجري كل شيء بدقة مذهلة، كأن الخلية تعمل وفق تعليمات زمنية مكتوبة لا تتجاوزها.
أما سرّ العمر، فيتجلّى في «التيلوميرات»؛ تلك البُنى الدقيقة التي تحفظ أطراف الكروموسومات. ومع كل انقسام تقصر قليلًا، حتى تبلغ حدًا لا يسمح بمزيد من الانقسام، فتتجه الخلية إلى التوقف والموت. أي أن العمر ليس أمرًا طارئًا، بل مقدار محسوب، يجري وفق كتاب لا يتقدّم ولا يتأخر، في صورة بديعة لمعنى قوله تعالى:
﴿ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ ﴾
ومن يتأمل هذا النظام الزمني يدرك أن الحياة ليست مجرد حركة، بل ميقات، وليست مجرد مادة، بل قدر، وليست مجرد تفاعلات، بل سنن تضبط البداية والنهاية. والهداية هنا ليست في الوظيفة وحدها، بل في الإيقاع كذلك: متى تعمل الخلية، ومتى تتوقف، ومتى تختار الفناء حفظًا للجسد.
والسنة نفسها تسري في حياة الأمم؛ فليس كل إصلاح يُعجّل، ولا كل مشروع يُؤخّر، بل لكل خطوة وقتها، ولكل قرار ميقاته. وكما أن الخلية التي تتجاوز إيقاعها تتحول إلى خطر، كذلك الأمم التي لا تراعي سنن الزمن تصاب بأمراض الحضارة: فوضى، وارتباك، وفقدان توازن. وكما تُمسك التيلوميرات بعمر الخلية، تمسك السنن الإلهية بأعمار الشعوب والحضارات:
﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ﴾
وهكذا، يجتمع في الخلية لسانٌ يتكلم، وزمنٌ يضبط الإيقاع؛ لغة خفية تحفظ وحدة الجسد، وتوقيت محكم يحفظ توازنه، ليشهدا معًا بأن الخلق ليس عبثًا، وأن وراء هذا النظام خالقًا عليمًا حكيمًا، وأن ما نراه في الخلايا هو وجه من وجوه الحقيقة الكبرى التي أعلنها الوحي: إنه الحق.
وفي الجزء القادم (6 من 10)… سنقترب أكثر من سرّ الهوية الخلوية: كيف تعرف الخلية نفسها؟ ولماذا لا تتحول خلية قلب إلى خلية كبد أو دماغ؟ وكيف يُبنى «تخصّص الوظائف» داخل الجسد في مشهد جديد من مشاهد الهداية؟




