مقالات

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..وما أدراك ما الـDNA؟ (4 من 10) الميزان الذي لا يختلّ… والإصلاح الذي لا يتوقف

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..وما أدراك ما الـDNA؟ (4 من 10) الميزان الذي لا يختلّ… والإصلاح الذي لا يتوقف

 

 

من أعجب ما أودعه الله سبحانه وتعالى في الخلية أنها لا تنتظر من يصلحها من خارجها، ولا تعتمد على الصدفة كي تستقيم حياتها، بل تعمل وفق منظومة إصلاح ذاتي أعظم من أي نظام صيانة عرفه الإنسان. فكل دقيقة تحدث آلاف الأخطاء في نسخ الـDNA، وفي قراءة الشيفرة، وفي بناء البروتينات. ولو تُركت هذه الأخطاء بلا ضبط، لانهار الجسد، ومع ذلك يمر كل هذا بلا اضطراب، لأن الخلية مُهداة إلى طريقها، تعمل وفق نظام محكم مبرمج، يراقب ويصلح ويستبدل ويقطع ويلصق دون توقف.

فعندما يظهر خطأ — ولو في حرف واحد من ملايين الحروف — تنطلق بروتينات متخصّصة تعمل كفرق هندسية مدرّبة: تقطع الجزء الخاطئ، وتنسخ الصحيح، وتعيده إلى موضعه بدقة تُذهل العقل. وهذا وحده يدل أن الخلية لا تتحرك عشوائيًا؛ إذ لا يمكن لمادة صمّاء، بلا منظومة موجهة، أن تميّز الخطأ من الصواب، أو تحفظ النسخة السليمة، أو تعيد بناء ما فسد دون قانون حاكم.

لكن الأعجب من ذلك أن بعض الخلايا تمتلك آليات للتعامل مع الأخطاء التي تتجاوز الحدّ المسموح، فإذا بلغ الخلل مستوى لا يُصلح، وكان استمرار الخلية خطرًا على الجسد، فإن النظام يُفعِّل ما يسمّيه العلماء «الموت المبرمج». تموت الخلية حفاظًا على الكل، حتى لا ينفلت الخلل ويصبح مرضًا عامًا. وهذه أعلى مراتب الهداية في الخلق: التضحية المنظمة التي تحفظ الحياة، لا الفوضى التي تدمّرها.

وهذا النظام المعقّد من الإصلاح والموت المبرمج والحماية لا يمكن تفسيره بالصدفة؛ لأن الصدفة لا تنتج نظامًا مضادًا للصدفة، والعشوائية لا تخلق آليات تمنع العشوائية. أما الخلية فتعمل ضمن شبكة إصلاح ووقاية بميزان ثابت لا يختلّ:
﴿ الَّذِي خَلَقَ فَسَوّىٰ * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ﴾

غير أن الأعجب من كل آليات الإصلاح الفردية هو الطريقة التي تعمل بها ملايين البروتينات معًا داخل الخلية الواحدة. فالحياة ليست مجرد إصلاح أو نسخ أو ترجمة، بل تناغم يحدث في اللحظة ذاتها داخل مساحة لا تُرى بالعين. فالخلية مدينة كاملة تعمل دون توقف: مصانع تنتج، وورش تصلح، وشبكات تنقل، ومحطات تولّد الطاقة، وأجهزة مراقبة تكشف الخلل، وكل بروتين يؤدي دوره في زمنه ومكانه دون تزاحم أو تضارب.

وهذا النظام — الذي يسمّيه العلماء «شبكات التنظيم الخلوي» — أعقد من جميع شبكات الكهرباء والاتصالات والمطارات على وجه الأرض. فلكل بروتين مسار محدد، ولكل تفاعل توقيت محسوب، ولكل إشارة مقدار لا يزيد ولا ينقص. وهذا هو سرّ الحياة: ميزان يعمل دون مركز قيادة ظاهر، ودون مدير عام، بل بقواعد موزّعة في كل جزء من الخلية، كأن النظام مكتوب في نَفَس كل جزيء من جزيئاتها.

وقد حاول العلماء محاكاة هذا النظام بالحواسيب العملاقة، فلم يستطيعوا، لأن كمية المعلومات التي تتدفق داخل خلية واحدة في الثانية الواحدة تفوق ما يجري في أكبر مراكز البيانات في العالم. وهذا كله شهادة أن وراء هذا النسق عقلًا مطلقًا وحكمة لا يحيط بها وصف، كما قال الله تعالى:
﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾

وإذا نقل الإنسان هذا النظام من عالم الخلية إلى عالم الأمم، أدرك أن نهضة الدول لا تقوم بالصدفة، ولا تستقيم مع الفوضى، ولا تنهض بلا ميزان يحكم كل شيء: ميزان في الحكم، وميزان في القانون، وميزان في الرقمنة والحوكمة، وميزان في توزيع الأدوار، وميزان في كشف الأخطاء وإصلاحها قبل أن تتحول إلى انهيار. فكما أن الخلية لا تؤجل إصلاح الخلل، كذلك الدول التي تنهض لا تترك الخطأ حتى يتراكم، ولا تقدّم مصلحة الجزء على مصلحة الكل، ولا تتحرك بلا نظام جامع.

وهكذا تتجلى السنّة الكبرى: أن الحياة لا تقوم إلا بالميزان، وأن أدنى خلل — في خلية أو دولة — يمكن أن ينسف أعظم البنى، وأن الله سبحانه وتعالى الذي أمسك هذا النظام في الخلية هو الذي أمسك السماوات والأرض أن تزولا:
﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ﴾

وفي الجزء القادم (5 من 10)… سنرى كيف تعرف الخلية متى تنقسم ومتى تتوقف، وكيف يكتب الله تعالى للإنسان أجله من داخل كل خلية من خلاياه، دون أن تختل السنن أو يضطرب النظام.

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى