مقالات

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..وما أدراك ما الـDNA؟ (1 من 10) من الخيط الخفي إلى سرّ الوجود

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..وما أدراك ما الـDNA؟ (1 من 10) من الخيط الخفي إلى سرّ الوجود

 

 

هناك رحلات تبدأ من نهايات بعيدة، ورحلات تبدأ من أصغر مما يمكن للعين أن تراه، لكنها تفتح أمام العقل أبوابًا لا نهاية لها. ورحلتنا هذه — رحلة التأمل في جزيء الـDNA — ليست مجرد بحث علمي في مادة حيّة، بل نافذة واسعة على معنى الخلق، وبوابة إلى النظام الكوني، ودليلٌ يقود الإنسان إلى اليقين من باب العلم نفسه.

فمنذ أن اكتشف العلماء بنية الحمض النووي DNA في منتصف القرن العشرين، تغيّر فهم الإنسان لنفسه وللكون. والـDNA هو اختصار لعبارة DeoxyriboNucleic Acid، أي «الحمض النووي الريبي منزوع الأكسجين». فالحرف D مأخوذ من كلمة Deoxy التي تعني منزوع الأكسجين، والحرف A من كلمة Acid، أمّا الحرف N فمأخوذ من كلمة Nucleic التي تعني «نووي» أو «مرتبط بالنواة»، وهي الصفة الأهم التي تميّز هذا الجزيء؛ إذ يقبع داخل نواة الخلية ويحمل مادتها الوراثية. أمّا الجزء “ribo” فبقي داخل الاسم ولم يُختصر، لأنه وصفٌ بنيوي، بينما حُفظت الأحرف الثلاثة من الكلمات الأساسية المكوّنة للاسم العلمي.

أدرك البشر أن الحياة ليست فوضى كيميائية ولا مادة مبعثرة، بل كتاب محكم مكتوب بلغة كاملة، لا تختلف في جوهرها عن لغات البشر إلا في حروفها. فالـDNA ليس مادة صامتة، بل نصٌّ بيولوجي قائم بذاته، مكتوب بأربعة أحرف فقط: A وT وC وG.

وهنا تنبيهٌ لا بد منه:
فهذه ليست حروفًا لغوية من أبجديات البشر، ولا نصًّا مكتوبًا بالإنجليزية أو غيرها، بل هي رموزٌ كيميائية عالميّة وضعها العلماء اختصارًا لأسماء القواعد الأربع المكوّنة للشفرة: أدينين وثايمين وسايتوسين وجوانين. ولو شئنا لرمزنا لها بحروف عربية، لكن العلم لا يحتمل تعدد الرموز، فوحِّدت الاصطلاحات عالميًا بالحروف اللاتينية فقط للتسهيل. ولذلك فالـDNA ليس نصًا بحروف البشر، بل بنيةٌ كيميائية تشبه الكتابة في منطقها وإحكامها، لا في لغتها أو حروفها.

لكنّ هذه الرموز الأربع — التي تصطف في ثلاثة مليارات موضع — تصنع خارطة الإنسان، وتحدّد شكل العينين ولون البشرة وطول القامة، وتنظم وظائف القلب والرئتين، وتصنع الهرمونات والمناعة، وتتحكم في النمو والشيخوخة، وتحدد موعد انقسام الخلية وموعد موتها.

إنّ كل خلية في جسد الإنسان — وعددها يقارب سبعةً وثلاثين تريليون خلية — تحمل نسخة كاملة من هذا الكتاب المعجز. نسخة محفوظة في نواة لا تُرى، لكنها تحمل من المعلومات ما لو كُتب بلغتنا لامتدّ إلى مليون صفحة. ولعلّ أعجب ما في هذا الجزيء أن «الخيط» الوراثي الذي لا يُرى قُطره لا يتجاوز (2 نانومتر)، أي جزءًا من المليار من المتر، بينما يبلغ طوله في الخلية الواحدة قرابة مترين كاملين، مطويًّا بإحكام خارق داخل نواة لا يتجاوز قطرها ستة ميكرومترات؛ كأنك قد كبست حبلًا طوله أربعون كيلومترًا داخل حبة رمل. ويزن هذا الخيط — على ضآلته — نحو ستة بيكوجرامات، فإذا جمعت وزن الـDNA في خلايا الإنسان كلّها لم يزد عن مئتي غرام تقريبًا، أي وزن كوب ماء. ولو فُرد DNA إنسان واحد امتدّ في الفضاء مسافةً تقارب

أربعة وسبعين مليار كيلومتر؛ تكفي لبلوغ الشمس نحو خمسمائة مرة ذهابًا وإيابًا، أو للالتفاف حول الأرض أكثر من مليونَي مرّة. هذه الأرقام وحدها تكشف أن ما يجري داخل الخلية ليس عشوائية مادّة، بل هندسة كونية فائقة الإتقان، لا يمكن أن يُتصوّر حدوثها بلا تقدير مُسبق ولا نظام محكم.
وهذا وحده يجعل الـDNA آية من آيات الله في «الأنفس» كما قال تعالى:
﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ ﴾

فالآية هنا ليست مجرد دعوة للتدبر، بل حقيقة مشاهدة:
آية في السماء حين ننظر إلى الكون، وآية في النفس حين ننظر إلى الخلية.

والـDNA ليس مجرد تركيب، بل لغة ومنطق وبناء وترميز وخطة عمل كاملة. إنه برنامج حيّ، يقرأ نفسه، ويترجم نفسه، ويكتشف أخطاءه، ويصلحها، ويعاقب الخلايا المنحرفة، ويأمر الخلية بالموت إن خرجت عن نظامها. كل دقيقة تُصنع آلاف البروتينات وفق شفراته، ويُنسخ جزء من نصّه، وتُرسل تعليمات دقيقة، وتُوقف وظائف وتُفعّل أخرى، في تناغم يفوق قدرات أعظم الحواسيب.
فهل يمكن لهذا الإتقان أن يكون بلا مُقدّر؟ وهل يمكن للصدفة أن تكتب لغة، أو تبني نظامًا، أو تُنشئ قواعد قابلة للقراءة والإصلاح؟

وليس هذا الاستنتاج تأمّلًا عابرًا، بل حقيقة تشهد بها لغةُ العلماء أنفسهم؛ فقد وجدوا أنفسهم — بحكم الواقع العلمي لا بحكم الإيمان — مضطرين لاستخدام كلمات لا تُستعمل إلا لوصف الأنظمة المصمَّمة عمدًا: «لغة»، «شفرة»، «معلومات»، «ترجمة»، «تصحيح أخطاء»، «قراءة»، «برمجة». وهي كلها مصطلحات لا يمكن أن تُطلق على مادة عمياء أو تفاعل عشوائي. فالعالِم حين يسمي الشيءَ «لغة»، يعترف ضمنًا بوجود قواعد ونحوٍ وترميزٍ ومعنى، وحين يقول إن الخلية «تصلح أخطاءها» فهو يقرّ بوجود معيار للصواب والخطأ وآلية إصلاح. وهكذا تكشف المصطلحات العلمية — من حيث لا يقصد أصحابها — أن هذا النظام لا يمكن تفسيره بالعشوائية وحدها، بل يحمل سمات الإحكام والتقدير في كل طبقاته.

لقد اعترف العلماء — دون قصد — حين وصفوا الـDNA بأنه «رمز» و«لغة» و«برنامج»، بأن وراءه مصمّمًا؛ لأن الأكواد لا تكتب نفسها، واللغات لا تنشأ بلا عقل، والبرامج لا توجد من غير مبرمج. وما من كتاب على وجه الأرض يقترب من إحكام هذا النص البيولوجي الذي وضعه الخالق في الخلايا.

إن وجود هذا الكتاب داخل الإنسان حجة قائمة بذاتها؛ فالخالق وضع في أجساد البشر برهانًا داخليًا يشهد على وحدانيته دون أن يحتاج الإنسان إلى رحلة خارج نفسه. إنه البرهان الذي تشير إليه الآية:
﴿ وَالَّذِي خَلَقَ فَسَوّىٰ * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ﴾

خلق الخلية فسواها، وقدّر الشفرة فهداها، وجعل في كل شيء ميزانًا لا يتخلّف.

وهكذا يصبح الـDNA أعظم شاهد علمي معاصر على أن أصل الخلق ليس صدفة ولا تطورًا أعمى بلا هداية، بل تقدير محكم وصنع متقن. وكلّما تعمّق العلم خطوة جديدة في فهم الجينات والتنظيم الوراثي، ازداد يقينًا بأن وراء هذا الكون إرادة عليمة حكيمة لا يمكن أن تُختزل في المادة أو العشوائية.

ورحلتنا في هذه السلسلة — الممتدة عبر عشرة مقالات — ليست رحلة في المختبرات فقط، بل رحلة في معنى الوجود نفسه. سنبدأ من لغة الحياة وكيف كُتبت، ونكشف سرّ القراءة والترجمة، ونتأمل التنظيم فوق الجيني (Epigenetic)، ونرى كيف تنسق الخلايا أعمالها دون عقل مركزي، وكيف تُرمم نفسها، وكيف تموت حين يأذن الخالق. ثم نمضي إلى ما وراء العلم:
ماذا تقول هذه اللغة عن الإنسان؟
وماذا تقول عن الخالق؟
وماذا تقول عن النظام والنهضة وقوانين بناء الأمم؟

فالقرآن لم يخاطب علماء الوراثة وحدهم بقوله:
﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾
بل خاطب كل إنسان يرى في خليقته دليلًا على الحق ودعوة للتأمل.

وفي هذا المقال الأول نضع الأساس للسؤال الأكبر:
كيف يمكن لجزيء لا يتجاوز قطره جزءًا من المليار من المتر أن يحمل حياة كاملة؟
كيف يمكن لثلاثة مليارات حرف أن تحكم جسدًا بلا فوضى؟
كيف تعمل تريليونات الخلايا بتناغم، كلُّ واحدةٍ منها تعرف دورها دون تضارب؟
وكيف توجد كتابة بلا كاتب، ولغة بلا واضع، ونظام بلا مصمّم؟

إنّ أول ما يكشفه الـDNA أن العشوائية لا تُنشيء نظامًا، وأن الفوضى لا تصنع لغة، وأن الحياة ليست مادة صمّاء، بل كتابة مقصودة، وخطة مُتقنة، وهداية تامة.

سنواصل في المقال القادم، بإذن الله، الغوص في أول ركائز هذه الشهادة:
لغة الحياة نفسها… كيف كُتبت؟ ولماذا لا يمكن أن تكون إلا صناعة مُحكمة؟

وهكذا تبدأ الرحلة…
رحلة من خيط لا يُرى، لكنه يحمل في داخله سرّ الوجود كلّه.

وصدق الله العظيم القائل:
﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾
سورة فصلت – الآية 53

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى