محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..السودان: القصة الكاملة من 1956 حتى 2025

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..السودان: القصة الكاملة من 1956 حتى 2025
شهد السودان، منذ الاستقلال وحتى اليوم، تحولات عميقة في طبيعة اقتصاده وفي دور الدولة داخل السوق. فمن اقتصاد متوازن يقوم على قطاع خاص قوي ودولة منظِّمة لا تتاجر، إلى اقتصاد تحتكره الحكومة بالكامل في عهد التأميم، إلى اقتصاد ريعي نفطي، ثم اقتصاد تُديره دولة مرهَقة وعاجزة، قبل أن تبتلع الحرب ما تبقّى من مؤسساته. وما بين هذه العقود المتباينة انقلبت علاقة الدولة بالاقتصاد رأسًا على عقب، فتغيّر معها مسار الجنيه، والصادرات، والإنتاج، والإدارة، حتى وصل السودان إلى أزمته غير المسبوقة اليوم. وهذا المقال يحاول أن يروي القصة كاملة، بلا أفكار مسبقة، وفق تسلسل دقيق، وأرقام قريبة من الواقع، وتشخيص جذري يضع كل عهد في مكانه، ويكشف أين ضاع السودان، وكيف يمكن أن يُستعاد.
بدأت الحكاية عقب الاستقلال عام 1956، حين كان الاقتصاد السوداني اقتصادًا مختلطًا يميل إلى القطاع الخاص؛ فالقطاع العام يملك المرافق الكبرى كالسكة الحديد والكهرباء والميناء ومشروع الجزيرة، بينما التجارة والزراعة والصناعة عمومًا بيد القطاع الخاص الوطني والأجنبي. وكانت الدولة تلعب دور المنظّم لا التاجر، تستفيد من ضرائب الصادر والجمارك ورسوم الميناء دون أن تنافس التجار أو تحتكر التجارة. وكانت الصادرات الكبرى – وعلى رأسها القطن ثم الصمغ العربي والحبوب الزيتية والماشية – تُنتج في الأغلب بواسطة المنتجين والمزارعين والقطاع الخاص، وتُصدَّر عبر بيوتات التجارة الوطنية والأجنبية ومجالس السلع المتخصصة، فتتولى الشركات الخاصة
تسويقها عالميًا، بينما تكتفي الدولة بدورها التنظيمي وبنصيبها من الرسوم والضرائب. في هذا المناخ ظل الجنيه السوداني ثابتًا وقويًا عند نحو 2.87 دولار بلا سوق موازية ولا قيود تُذكر على التحويلات، واستندت ميزانية الدولة إلى عائدات القطن التي كانت تمثل أكثر من نصف حصيلة السودان بالنقد الأجنبي، مع مساهمة معتبرة من الصمغ والحبوب الزيتية والماشية ورسوم الميناء.
وفي عهد الفريق إبراهيم عبود (1958–1964) بلغ الانضباط الاقتصادي ذروته؛ إذ استُبقي الاقتصاد المختلط المنظّم، فظل القطاع الخاص نشطًا في التجارة والصناعة والزراعة، بينما حافظت الدولة على دورها التنظيمي في المرافق الكبرى دون أن تتحول إلى منافس لهم في الأسواق. لم يكن هناك تأميم، ولا تدخل مباشر في التجارة، ولا فوضى سياسية، ولذلك لم تظهر سوق موازية للعملة، وبقي الجنيه
عند قيمته العالية. ازدهرت مشروعات البنية الإنتاجية مثل مصنع سكر الجنيد، وتطورت السكة الحديد، وتهيأت البلاد لزيادة الصادرات الزراعية. ولم يكن السودان يستورد القمح إلا بكميات محدودة لسد النقص الموسمي، بينما كان غذاؤه الرئيسي هو الذرة والدخن، مع زراعة قمح محلي كافٍ نسبيًا لعدد سكان لم يتجاوز عشرة ملايين آنذاك، الأمر الذي جعل فاتورة القمح محدودة وغير مُرهِقة لميزان المدفوعات.
ثم جاءت الفترة المدنية (1964–1969) التي شهدت اضطرابًا سياسيًا كبيرًا، وتعددت الحكومات حتى صار القرار الاقتصادي مشلولًا. ورغم أن هيكل الاقتصاد ظل نظريًا مختلطًا قائمًا على القطاع الخاص مع دولة منظِّمة، فإن الفوضى السياسية عطّلت الاستثمار والإنتاج، وبدأت بوادر العجز في الميزانية، وتدهورت إدارة مشروع الجزيرة والقطاعات الإنتاجية، وتباطأ تنفيذ المشروعات الكبرى. ومع ذلك لم يتغير سعر الصرف رسميًا، وظل الجنيه محتفظًا بقيمته الاسمية المرتفعة لعدة أسباب مجتمعة؛ منها أن حجم السكان كان لا يزال صغيرًا نسبيًا، وأن أنماط الاستهلاك لم تكن قد تحولت بعد إلى استيراد كثيف للغذاء والسلع الكمالية، وأن الدولة لم تكن قد توسّعت بعد في الاقتراض الخارجي، إضافة إلى استمرار عائدات القطن في توفير قدر معقول من النقد الأجنبي. لذلك تأخر انعكاس التدهور السياسي على سعر الصرف بضع سنوات، فبقي السعر الرسمي قويًا، وإن بدأت تظهر تحت السطح ضغوط وتوترات في الاقتصاد الحقيقي.
ومع انقلاب مايو 1969 بدأت أخطر لحظة في تاريخ الاقتصاد السوداني. ففي عام 1970 صدرت قرارات التأميم والمصادرة التي حوّلت الاقتصاد فجأة إلى اقتصاد عام شبه كامل؛ أمّمت البنوك وبيوتات التجارة وشركات الصادر والوارد والمصانع والمحالج وشركات الزيوت ووكالات الشحن. أنشئت “المؤسسة العامة للحبوب الزيتية” لتكون المشتري الوحيد للسمسم والفول السوداني، واحتكرت “هيئة الصمغ العربي” شراء وتصدير الصمغ، وأصبحت مؤسسات حكومية جديدة الفاعل الوحيد في تسويق القطن، وتحولت الدولة إلى التاجر الأكبر والمستورد الأكبر والمصدّر الأكبر. وبهذه الخطوة اختفى دور القطاع الخاص وانقطع شريان الكفاءة والتنافس، وظهر لأول مرة سوق موازية للعملة لأن السعر الرسمي بقي ثابتًا لفترة عند نحو 2.87 دولار للجنيه ثم خُفض في 1978 إلى حدود 2.50 ثم 2.00 دولار
للجنيه، بينما كانت قيمة الجنيه الفعلية في السوق الموازية أضعف كثيرًا؛ ففي أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات كان الدولار يُتداوَل في السوق الموازي بما يقارب ضعفي السعر الرسمي أو أكثر، أي أن من يملك جنيهًا واحدًا لا يحصل في الواقع إلا على نصف أو ثلث ما تعلنه الدولة من قيمة اسمية، ثم تواصلت التخفيضات حتى صارت القيمة الرسمية نفسها في منتصف الثمانينات في حدود 0.40 دولار للجنيه أو أقل، في ظل سعر موازٍ أدنى من ذلك أيضًا.
في هذه الفترة اتخذ السودان قرارًا سياسيًا مدروسًا، سيق إليه – في تقدير كثيرين – عبر مصيدة عالمية ذكية بدأت بمنح المعونة الأمريكية، بزيادة استهلاك القمح في الحضر وربط الخبز برضا الطبقة الوسطى في المدن، فتضاعف استيراده من نحو 40 ألف طن في 1970 إلى أكثر من 220 ألف طن في 1980 ثم إلى حوالي 350 ألف طن في 1984. ومع ضعف الإنتاج الزراعي وتدهور المشاريع الكبرى صار القمح عبئًا ثقيلًا على الميزان التجاري، وتحوّل تدريجيًا إلى الغذاء الرئيسي في المدن بعد أن كان غذاءً مكمّلًا. ومع تدهور مشروع الجزيرة بسبب سوء الإدارة الحكومية وفقدان الأسعار العالمية للمزارع، تراجع الصادر بشدة، وانهار توفر النقد الأجنبي، وارتفعت الديون من نحو 700 مليون
دولار في 1970 إلى حوالي 9 مليارات بنهاية السبعينات، ثم إلى ما يقارب 13 مليارًا عند سقوط نميري في 1985. ووثّق الدكتور شريف التهامي – وزير الطاقة – أن الدولة بلغت من السوء أنها عجزت حتى عن دفع رسوم ترحيل النفط المهدي إليها مجانًا من السعودية، وأن المصافي لم تكن تجد ثمن الجازولين لتشغيل نفسها، بينما كان الوزراء يشجَّعون على الاستدانة لتسيير دولاب الدولة، في صورة مكثفة لاقتصاد دولة تاجر مفلس.
حاول نميري الانفتاح جزئيًا في منتصف السبعينات، فردّ بعض الشركات وفتح الباب للاستثمارات العربية، لكن الثقة كانت قد انهارت والقطاع الخاص لم يعد قادرًا على استعادة دوره السابق، وظلّت الدولة عبر مؤسساتها العامة تحتكر الصادر والوارد في السلع الرئيسية، فانكمش الإنتاج أكثر وازدادت الديون، ثم جاءت برامج صندوق النقد في 1978–1981 لتخفض الجنيه وترفع الدعم وتزيد الرسوم، لكنها زادت الألم دون معالجة الجذر، لأن أصل المرض – وهو سيطرة الدولة على التجارة والإنتاج – ظل قائمًا كما هو.
ورثت الفترة المدنية (1985–1989) اقتصادًا منهارًا، ودولة بلا احتياطي نقدي، وديونًا تقارب 13 مليار دولار، وفجوة عميقة بين السعر الرسمي والموازي، وقطاعًا عامًا مترهلاً، وقطاعًا خاصًا يعاني من غياب الاستقرار وضعف الثقة. ورغم محاولات الإنقاذ المالي، فإن تضارب الأحزاب وصراع السلطة وتعاقب الحكومات عطّل الإصلاح، وواصل الجنيه تدهوره، وازدادت الجبايات والرسوم، وبرزت السوق السوداء كفاعل رئيسي يحدد السعر الحقيقي للنقد الأجنبي بعيدًا عن أرقام بنك السودان.
ثم جاء انقلاب 1989، وأعلنت الإنقاذ “التحرير الاقتصادي”، لكنه كان تحريرًا شكليًا دون تحرير حقيقي للسوق أو بناء مؤسسات؛ فبقيت الدولة في حال من تخبط السياسات، واحتفظت بقدرة واسعة على التحكم في منح التراخيص والامتيازات، وأُضيف إلى ذلك تضخم الصرف الحكومي. وفي التسعينات أدى الحصار الدولي والعقوبات إلى مزيد من انهيار العملة وتراجع الاستثمار، وزادت السوق الموازية قوةً وانتشارًا.
ومع ذلك لا يمكن إنكار أن عهد الإنقاذ، خاصة بعد منتصف التسعينات، شهد عددًا من الإنجازات الملموسة؛ فمشروع النفط نفسه بالعام 1999 كان أحد أكبر إنجازات تلك الفترة، إذ تحوّل السودان من بلد يستورد معظم احتياجاته من الوقود إلى بلد منتج ومصدّر للنفط لفترة من الزمن،
كما توسعت البنية التحتية للطرق بشكل لافت، وامتد الأسفلت إلى كثير من الولايات وإن كانت المواصفات الفنية في بعض الطرق دون المطلوب،
وتوسع التعليم العام والعالي بصورة ضخمة فازدادت أعداد المدارس والجامعات والمعاهد رغم تفاوت الجودة،
وتحسن انتشار الكهرباء والاتصالات وشبكات الهاتف المحمول في معظم أنحاء البلاد.
وارتفعت إيرادات الدولة حتى أصبحت قرابة 75% من مواردها تأتي من النفط بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وبلغ الناتج المحلي الإجمالي ذروته عند نحو 65 مليار دولار في 2008، وأصبح السودان سادس أكبر اقتصاد إفريقي من حيث الحجم الاسمي في تلك الفترة. لكن هذا الازدهار كان سطحيًا لأنه اعتمد على مورد واحد لم تُوظَّف عائداته وفق تخطيط محكم ولا في ظل أنظمة ضابطة للإنفاق والاستثمار، ولم يُستثمر الفائض النفطي في إعادة بناء قاعدة إنتاجية حقيقية، وهو ما كان يمكن أن يعيد السودان إلى سكة الازدهار لولا إهمال الدولة للتحديث الحقيقي للبنية التحتية الإنتاجية.
وتبرز هنا إحدى أكبر الخسائر طويلة المدى:
فقد شهدت سنوات ما بعد النفط تراجعًا حادًا (بل تلاشيًا شبه كامل) في ثلاثة أعمدة استراتيجية للأمة:
السكة الحديد التي كانت الأطول والأقوى في إفريقيا،
والخطوط الجوية السودانية التي كانت من بين الأفضل في المنطقة،
والخطوط البحرية السودانية التي كانت شريانًا وطنيًا سياديًا للتجارة.
وهذه ليست مجرد أصول تجارية، بل كانت ركائز سيادية متعلقة بالأمن القومي والقدرة الإنتاجية وعمق الدولة الاستراتيجي. وغيابها لم تستطع أي بنية أخرى تعويضه.
ومع انفصال الجنوب في 2011 فقدت البلاد نحو 75% من نفطها فجأة، فانكشف الاقتصاد على حقيقته: تضخم متسارع، وتدهور حاد في الجنيه، وتوسع مخيف في التهريب، وفوضى مالية شاملة، وعودة الاعتماد على الذهب والرسوم والضرائب بدلًا من إنتاج حقيقي متنوع.
وحين سقطت الإنقاذ في 2019، ورثت الحكومة الانتقالية اقتصادًا هشًا، ودولة مثقلة بالديون والالتزامات، وقطاعًا خاصًا مهزوزًا، لكن الأخطاء كانت كبيرة؛ فقد جرت محاولات “إصلاح” نقدي عبر توحيد سعر الصرف ورفع الدعم عن الوقود والقمح وغيره، دون تحرير شامل للسوق ودون إصلاح مؤسسي جذري، ودون رقمنة أو حوكمة حقيقية، وفي بيئة سياسية منقسمة وحاضنة مضطربة. فتحرير السعر دون تحرير السوق، ومن غير وجود مؤسسات رقابية قوية وقضاء مُفعَّل، يعني في الواقع تضخمًا هائلًا، وهو ما حدث بالفعل حين تجاوز التضخم 300% في بعض التقديرات، بينما لم يصل للبلاد سوى جزء يسير من الوعود الدولية التي روِّج لها، وظل معظم الدعم الخارجي حبرًا على ورق. تراجعت الثقة في العملة وفي الحكومة، وزاد التهريب، وتجمد الاستثمار، وانهار الجنيه بوتيرة أسرع، وأصبحت السوق الموازية اللاعب الحقيقي في تحديد الأسعار، بينما بقي القرار الاقتصادي بلا رؤية كلية ولا خريطة طريق واضحة.
ثم جاء 25 أكتوبر 2021، فتوقفت المساعدات الدولية تقريبًا، وتعمّق الانهيار، وازدادت الجبايات لسد عجز الخزينة، وحُرم الاقتصاد من أي دعم خارجي ذي قيمة، ثم انفجرت حرب أبريل 2023 التي أدخلت السودان في أسوأ أزمة في تاريخه الحديث. انهارت سلاسل الإمداد، وتوقفت المصانع أو كادت، وانقطع كثير من الإنتاج الزراعي بسبب انعدام الأمن وتفكك الطرق، وتفككت الدولة ماليًا وإداريًا، وانهار الجنيه إلى مستويات غير مسبوقة، وارتفعت الأسعار إلى درجات خانقة، بينما بقي الشعب على قيد الحياة بفضل موارده الذاتية العامة والخاصة الهائلة، من أرض خصبة وثروة حيوانية وذهب وغيرها، مما يؤكد أن ثروة السودان، رغم الخراب، لا تزال كامنة فوق الأرض وتحتها، وأن عجز الدولة ليس عجز موارد بل عجز إدارة ونموذج.
وهنا يجدر التنويه إلى ما أظهرته التجربة السودانية، وأكدته تجارب كثيرة في العالم، من أن اضطراب الاقتصاد وخرابه ينشآن في الغالب من نموذجين لا ثالث لهما:
اقتصادٍ مُقيَّدٍ تُمسك الدولة فيه بمفاصل الاستيراد والتصدير وتحديد الأسعار،
أو اقتصادٍ مُحرَّرٍ تحريرًا مشوَّهًا غير مكتمل.
ففي الحالة الأولى، حين تتولى الحكومة وحدها – كليًا أو جزئيًا – استيراد السلع الركنية الكبرى أو تصدير السلع الأساسية، تنشأ حول هذا الاحتكار سلسلة معقدة من العمليات الطفيلية المخطَّطة بعناية، يتداخل فيها موظفون نافذون مع تجار منظمين متعاونين، فتُستغل فروقات الأسعار بين الرسمي والحقيقي، وتُصنع الندرة المتعمدة أحيانًا عبر التحكم في سلاسل التوزيع، لتتكثّف عوائد قلّة قليلة من المنتفعين على حساب الدولة والمجتمع. وليس بخافيًا كيف كانت تُوزَّع في بعض العهود كوتات السكر لمصانع الحلويات والدقيق للمخابز، ليتسرب جزء كبير منها إلى الأسواق السوداء، وفي أحيان كثيرة تُعطى تخصيصات لمصانع أو مخابز لا وجود لها أصلًا.
وفي الحالة الثانية، حين يُرفع شعار التحرير بينما يبقى التحكم الفعلي في منافذ النقد الأجنبي والتراخيص والامتيازات وأدوات التسعير بيد دوائر ضيقة، يتحول التحرير إلى ستار لاقتصاد طفيلي جديد؛ فيكون سعر الصرف «محررًا» على الورق لكنه في الواقع مقيدٌ بسعر تأشيري رسمي يكرّس السوق الموازية، ويمنع استقرار العملة وتدفُّق الاستثمار. وتُخصَّص موارد النقد الأجنبي لفئات تستورد الوقود والقمح والسلع الكبرى بالسعر الرسمي ثم تبيعها بهوامش ضخمة، فضلًا عن تكتيكات الرفع المتعمد لفواتير الواردات لتجنيب فروقاتٍ خارجية تُحوَّل لاحقًا إلى أرباح بملايين الدولارات.
وهكذا يتبين أن أصل الأزمة لم يكن حربًا ولا فسادًا فقط ولا حصارًا ولا نظامًا سياسيًا دون آخر، بل لحظة واحدة فاصلة: حين خرجت الدولة لأول مرة في 1970 من دور المنظّم ودخلت دور التاجر المحتكر، ثم تعمّق هذا الاختلال عبر العهود اللاحقة؛ فغابت المنافسة الشفافة، وانهارت المؤسسات الرقابية، وتولدت السوق الموازية، وانقطع الاستثمار طويل الأجل، وتدهورت قيمة الجنيه، وتراجعت الصادرات، وضاعت هوية الاقتصاد بين اشتراكية مشوّهة وتحريرٍ اسميٍّ بلا مضمون.
ولن يخرج السودان من هذه الحلقة إلا بالعودة إلى النموذج الوحيد الذي أثبت نجاحه قبل 1969:
دولة تنظّم ولا تتاجر،
اقتصاد محرّر حقيقي،
منافسة نزيهة،
مؤسسات قوية،
ورقمنة شاملة، وحوكمة دقيقة، وقوانين مستقرة، تُمكّن القطاع الخاص المنتج من إعادة بناء الزراعة والصناعة والصادر، مع ضبط صارم للشفافية ومحاربة الفساد والاحتكار.
فهذا هو النموذج الذي ثبت نجاحه على نطاق العالم كله، وفشل كل نموذج يخالفه؛ إذ لم تنجح دولة جعلت من نفسها تاجرًا يحتكر السوق، بينما نجحت الدول التي جعلت من نفسها «حارسًا للملعب» يضمن القواعد العادلة، وترك اللاعبين الأقدر من القطاع الخاص يبدعون وينتجون.
ولأن النهضة والقوة لا تتأتّيان من التراخي عن العمل، ولا من الغفلة عن الدفاع، ولا من فتور استنفار الشعب وبعث عزيمته، كما لا تتأتّيان من سيطرة الدولة على التجارة أو من تحريرٍ وهميٍّ مشوَّه؛ فإن القوة والنهضة لا تُمنحان، بل تُنتزعان انتزاعًا، وتُبنيان بناءً، ولعل في ذلك خلاصة لاستقراء التاريخ وتجارب البشرية، وظلالٌ من روح الوحي.



