محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..فخامة الرئيس: سانحة لن تتكرر

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..فخامة الرئيس: سانحة لن تتكرر
في لحظةٍ فارقة من تاريخ السودان، يقف الوطن بين البقاء في دائرة الأزمات المتكرّرة أو الانطلاق نحو النهضة المنشودة. وليس سرًّا أن العطب الذي أصاب بنياننا السياسي والاقتصادي ليس وليد اليوم، بل هو نتاج تراكماتٍ ممتدة منذ الاستقلال عام 1956، حين لم يُبنَ النظام الوطني على رؤيةٍ مؤسسيةٍ متكاملة، بل على تحالفاتٍ نُخبويةٍ بين الزعامات الطائفية والدينية وبقايا الإدارة الاستعمارية التي دعمت هذا المنحى ووطّدته.
لقد أسس الاستعمار — رغم أغراضه الاستغلالية الواضحة — بنيةً مدنيةً قويةً لإحكام السيطرة على موارد البلاد وتسهيل نهبها، لكنها كانت، من حيث الكفاءة والتنظيم، متقدمةً على كثيرٍ من دول المنطقة. واستفاد السودان من تلك البنية الإدارية ردحًا من الزمن، ثم ما لبث أن قضى عليها الحكم الوطني تدريجيًا بعد الاستقلال، حتى آل الأمر إلى شبه زوالٍ للخدمة المدنية الحديثة التي كانت ركيزة الدولة وأداتها التنفيذية.
اليوم، ونحن أمام قيادةٍ وطنيةٍ جديدة ممثلةٍ في القائد العام الفريق أول عبد الفتاح البرهان ورئيس الوزراء الدكتور كامل إدريس، يبرز السؤال الأهم: هل نكتفي بإدارة الأزمة، أم ننطلق لإعادة تأسيس الدولة السودانية على أسسٍ جديدةٍ من الحرية المؤسسية، والحوكمة الرشيدة، والرقمنة الشاملة؟ إن الإجابة لا تحتمل التأجيل، لأن نهضة السودان لم تعد خيارًا، بل ضرورة بقاءٍ وتاريخٍ ومستقبل. بل حتى إدارة الأزمة القائمة لن يكتب لها التماسك والقوة إلا عبر استصحاب حزمة الإصلاح الكلي المتعاضد، وما من دولةٍ صغرى أو كبرى — حتى أمريكا أو الصين أو روسيا — إلا وهي في حالٍ دائمٍ من المقاومة والبناء معًا، وإن اختلفت صور ذلك بين دولةٍ وأخرى.
وهذا في جوهره من سُنَن الله في الأرض، إذ لا تستقيم الحياة إلا بالتدافع، كما قال تعالى: «ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض». فالتدافع الإلهي لا يكون فقط بين المؤمنين والكافرين، بل بين كل قوى البشر في صراع الخير والشر والاعتدال والطغيان، حتى بين الكافرين أنفسهم حين يسخّر الله بعضهم لكفّ أذى بعض، أو بين المؤمنين حين يُقيم الله بهم ميزان العدل داخل جماعتهم، فيردّ أهل الحقّ بغي أهل الغلوّ، وأهل الحكمة تجاوز أهل الجفاء. فالتدافع بهذا المعنى هو ناموس التوازن الإلهي الذي يحفظ الكون والمجتمعات من الفساد الكامل أو الجمود المطلق، وبه تُصان حياة الأمم وتتجدّد طاقتها وتتهيأ سبل النهضة.
لقد كانت جذور الأزمة السودانية بنيويةً لا طارئة، إذ نشأ الحكم الوطني على توازناتٍ شخصيةٍ وطائفيةٍ أكثر من اعتماده على مؤسساتٍ وطنيةٍ حديثة. فالأحزاب الدينية والطائفية مثّلت وجدان الناس، لكنها فشلت في تحويل العاطفة إلى مشروعٍ إصلاحيٍّ حقيقي، بينما فشلت الأحزاب العلمانية لأنها تحدّثت بلغة النخبة لا بلغة المجتمع، فبقيت بعيدةً عن هوية السودانيين.
وجاءت تجربة الإنقاذ — رغم ما حملته من شعارات الإسلام و النهضة والعزة وبعض النماذج التنموية الناجحة — مثقلةً بالفساد وضعف المؤسسية وتضارب الرؤى والحماس الثوري غير العلمي المفتقر إلى الإنصاف والحكمة، ففقدت ثقة الجماهير. وكانت أكبر أخطائها عدم اعتماد منظومةٍ متكاملةٍ لإدارة الدولة وفق نظامٍ شاملٍ منضبطٍ (System) يضمن التناسق بين مؤسساتها ويُرسّخ مبدأ العمل المؤسسي المستدام. فتحولت الخدمة المدنية من نموذجٍ للانضباط إلى عبءٍ على الدولة بعد أن أنهكتها المحسوبية والتمكين الحزبي غير الراشد.
أما ما سُمِّي لاحقًا بـ«حكومة التأسيس»، ففضلًا عن انفصامها عن هوية الأمة، فقد أظهرت في نسختها الأولى عجزًا كاملًا حتى عن تقديم نموذجٍ ماديٍّ جزئيٍّ للبناء أو التنمية، فضلًا عن العجز عن بلورة رؤيةٍ كليةٍ متكاملة، حتى قال كبيرهم إنه لم يُعطَ تصورًا لكيفية إدارة السودان ونهضته. بل انتهى بها الأمر إلى الارتهان لقوى خارجيةٍ ودعم مليشيا متمرّدة، مما جعلها تُدار بأجندةٍ ترمي لدمار السودان والقضاء على أمنه القومي.
إن الشعب السوداني لم ينحز تاريخيًا إلى الأحزاب الطائفية عن جهل، بل لأنه لم يجد بديلاً موثوقًا يمتلك مشروعًا وطنيًا واضحًا ومؤسساتٍ حزبيةً منضبطة. ولذلك فإن التحدي الأكبر اليوم ليس في تبديل الأشخاص، بل في إعادة بناء الدولة على أسسٍ جديدةٍ من التحرير الشامل، والمساءلة، والحوكمة، والرقمنة، والعدالة المؤسسية.
المفتاح الحقيقي للنهضة هو عقدٌ وطنيٌّ جديد يحرّر الاقتصاد والسياسة والمجتمع من قبضة النخب القديمة، ويربط السلطة بالمسؤولية والثروة بالإنتاج، في ظل نظام حكمٍ لا مركزيٍّ حديثٍ يتيح للمجتمعات المحلية إدارة مواردها ضمن دولةٍ موحدةٍ قويةٍ ذات رؤيةٍ كليةٍ متسقة.
لقد كشفت الحرب الراهنة — رغم مآسيها — زيف النخب وأسقطت كثيرًا من الأقنعة، لكنها في الوقت نفسه أيقظت وعيًا جديدًا لدى فئاتٍ واسعةٍ من الشباب والمجتمع المدني. هذا الوعي يمكن أن يكون بذرة التحول الحقيقي إن وُجدت القيادة الواعية التي تُحسن توجيهه وتنظيمه وفق رؤيةٍ شاملةٍ متكاملة.
وعلى النخب المستنيرة والقيادات الواعية أن تؤسس كيانًا وطنيًا جامعًا يحشد العقول العلمية والشخصيات المؤثرة، ليكون دافعًا وباعثًا ومذكّرًا دائمًا لقيادة الدولة بضرورة المسارعة إلى تنزيل هذه الحزمة الإصلاحية المتكاملة التي لا محيد عنها.
وليست هذه الدعوة تنظيرًا، بل نهجٌ أثبتته تجارب الأمم. فقد أنشأت فيتنام أثناء الحرب مؤسساتٍ خدميةً وبرامجَ قرويةً بالتوازي مع القتال، وأرست بريطانيا تحت القصف أسس دولة الرفاه عبر “تقرير بيفريدج”، وأطلقت كوريا الجنوبية عام 1973 دفعة الصناعات الثقيلة وسط توترٍ أمنيٍّ دائم، بينما أسّست فرنسا الحرّة إدارتها المدنية وخطط الإعمار وهي ما تزال تقاوم الاحتلال. وكذلك نسجت الثورة الجزائرية شبكات تعليمٍ وصحةٍ وإغاثةٍ في خضم المعارك، فكانت نواة دولتهم بعد الاستقلال، وأقامت الصين في مناطقها المحررة مدارس ومحاكم ومجالس شعبية قبل اكتمال النصر العسكري.
تلك شواهد تؤكد أن البناء زمن الحرب ليس ترفًا مؤجَّلًا، بل شرطُ البقاء وسبيلُ النصر معًا.
وهذه فلسفةٌ سبق إليها الإسلام وتفرّد بترسيخ معناها بما لا مزيد عليه، إذ دعا إلى العمل والبناء حتى في أشد لحظات الشدة والهول الفردي والجمعي. فقد خاطب الله تعالى مريم عليها السلام وهي في أقسى أحوالها الصحية والنفسية بأن تهز إليها بجذع النخلة ليتساقط عليها رطبًا جنيًا — وهو ما لا يقدر عليه أشداء الرجال — ولكن المراد كان ترسيخ معنى وجوب العمل وبذل أقصى المستطاع ولو بدا غير ممكن، حتى تنزل البركة ويحلّ التوفيق، إذ لا تُستجلب المعونة الإلهية إلا بعد الحركة والنية والعمل. ثم خاطب رسوله صلى الله عليه وسلم جموع الأمة حتى عند لحظة قيام الساعة نفسها، التي تجعل الولدان شيبًا ولا يُرجى بعدها عمرانٌ للدنيا، فقال:
«إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل»
(رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد).
إنها دعوة خالدة إلى العمل المستمر والبناء في كل حال، فكيف بنا ونحن في معركة البقاء والنهضة معًا؟
فلْيكن السباق بين جبهتي الحرب والبناء تنافسًا في بلوغ الغاية بأقصى سرعةٍ واتساقٍ، إذ إن تجزئة الإصلاحات تُضعف أثرها، أما الأخذ بها جملةً واحدة فيحصّنها ويقوّي بعضها ببعض.
ولئن كان غيرنا يفعل ذلك ولا يرجو الآخرة، فنحن أولى بالعمل الدؤوب ونحن نرجو العاجلة والآجلة معًا:
«إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون».
وإذا جاءت انتخاباتٌ أو حُكمٌ مدنيٌّ قبل ترسيخ هذه الإصلاحات، أو استمرَّ الحكمُ الانتقاليُّ أمدًا طويلًا بحكم الضرورة، فإن السودان — في كلتا الحالتين — سيظل في أحسن أحواله لا يموت ولا يحيا؛ يتحرك بلا نهضةٍ حقيقية، ويتنفس بلا روح دولةٍ راسخة، حتى تُنجز هذه الإصلاحات الكلية التي تُقيم العدل وتُطلق طاقات الإنتاج وتُعيد للدولة هيبتها المؤسسية.
وهنا تبرز المسؤولية التاريخية الكبرى الملقاة على عاتق قيادة الدولة اليوم. فإن استُثمرت هذه اللحظة بحكمةٍ وشجاعةٍ وإرادةٍ صادقة، وباستصحاب هذه الحزمة المتكاملة — تحريرًا، وحوكمةً، ورقمنةً، ونفاذًا للقانون، مع تلازمٍ كاملٍ بين جبهة المقاومة وجبهة البناء — أمكن أن ينهض السودان نهضةً راسخةً تضمن ديمومتها لأجيالٍ قادمة، ويحفظ الله لكم في ذلك الذكر الحسن في الدنيا، وأجره العظيم في الآخرة.
أما إن أُهدرت — لا قدر الله — فسيكون على السودان السلام.





