محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..أعجوبة السودان (2 من 3): نحو بعث الدورة الزراعية المتكاملة

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..أعجوبة السودان (2 من 3): نحو بعث الدورة الزراعية المتكاملة
امتدادًا لحديثنا السابق عن أعجوبة السودان، مشروع الجزيرة، نشير إلى أن المشروع قد شهد في مراحل سابقة محاولاتٍ لإدخال الحيوان في الدورة الزراعية عبر زراعة محاصيل علفية وبقولية لتغذية الماشية، وهي خطوة صائبة من حيث المبدأ لكنها لم تُنفَّذ على نطاقٍ مؤسسي شامل، بل اقتصرت على تجارب محدودة في بعض التفاتيش ومزارع النماذج، إذ لم تكن ضمن الدورة الزراعية الرسمية التي كانت رباعيةً، تتناوب بين القطن والفول والذرة الرفيعة وترك الأرض بورًا لتجديد خصوبتها، وذلك بحسب الدورات
المعتمدة تاريخيًا في التفاتيش الرئيسة. ومع ذلك، فإن تلك التجارب فتحت الباب أمام فكرة التكامل الزراعي–الحيواني التي تُعد اليوم من ركائز التنمية الريفية الحديثة، ويمكن إعادة إحيائها في المشروع من خلال إنشاء وحداتٍ علفيةٍ مركزية تعتمد على تدوير المخلفات الزراعية وتحويلها إلى أعلاف مضغوطة أو سيلاج موسمي، بما يحقق الاكتفاء العلفي ويخلق قيمة مضافة للمنتج الزراعي.
كما أن غياب التسويق المنظم لمنتجات الألبان أدى إلى تكوين جمعية ألبان الجزيرة ببركات لتجميع وتصنيع وتسويق الألبان، وهي مبادرة حقيقية وواعدة لكنها تعثرت بسبب ضعف التمويل وعدم انتظام سلاسل الإمداد والتوزيع. وتُعد هذه التجربة نموذجًا صالحًا للإحياء والتكرار، إذ يمكن تحويلها اليوم إلى منظومةٍ ذكية قائمةٍ على إدارة رقمية وسجلات إنتاج وتوريد شفافة، تُعيد ربط المنتج بالمستهلك مباشرة عبر المنصات الرقمية والأسواق الحديثة في الخرطوم والمدن الكبرى، بما يضمن الاستقرار السعري وتحسين دخل المزارعين والمنتجين.
أما فيما يتعلق بالبستنة، فتوجد وحدة للبساتين داخل المشروع وعدد من الوحدات البستانية المنتشرة خارج الدورة الزراعية. وصحيح أن المشكلة الرئيسة تكمن في أن مياه الريّ تتوفر في المشروع غالبًا لنحو تسعة أشهر سنويًا وفق جداول التشغيل المعتادة، وهو ما لا يسمح بزراعة محاصيل بستانية داخل الدورة التقليدية التي تحتاج إلى ريٍّ متواصل على مدار العام، لأن خزان سنار لا يتيح تصريفًا مستمرًا في جميع المواسم. ومع ذلك، فإن الحل لا يكون بإلغاء فكرة البستنة، بل بتكييفها مع الواقع المائي من خلال ابتكار أنماط ريٍّ اقتصادية مرنة.
فيمكن مثلًا تخصيص مناطق محدودة للبستنة في أطراف الترع ذات الانسياب الأعلى، مع استخدام تقنيات الريّ بالتنقيط والريّ بالرش الموفّر للمياه، كما يمكن إعادة استخدام مياه الصرف الزراعي بعد معالجتها طبيعيًا في أحواض ترسيب أو عبر زراعة سلالاتٍ محسَّنةٍ من الخيزران (البامبو) التي أثبتت كفاءتها عالميًا في امتصاص الملوحة والنيتروجين والفسفور والمعادن الثقيلة من المياه، بما يعيد التوازن البيئي ويحسن جودة التربة، وذلك بعد دراسةٍ
موقعيةٍ تحدد الأنواع الملائمة ومعدلات الغرس والمعايير البيئية الآمنة. والخيزران هنا لا يُعد أداةً بيئية فحسب، بل موردًا اقتصاديًا ضخمًا يُستخدم في إنتاج الأخشاب الصناعية، والأثاث، والورق، والفحم النشط، وحتى الطاقة الحيوية، مما يضيف موردًا جديدًا للمشروع دون عبءٍ مائيٍ إضافي يُذكر. ويمكن غرسه على هوامش الترع ومصارف المياه حيث التربة الرطبة، فيؤدي دور الفلتر الطبيعي الذي ينقّي المياه ويمنع التملح، مع تحقيق عائدٍ اقتصاديٍ موازٍ — وقد أفردنا له مقالًا تفصيليًا خاصًا تم نشره سابقًا.
كذلك يمكن الاستفادة من المياه الجوفية الموجودة فعليًا داخل أرض المشروع على أعماقٍ تقريبيةٍ تتراوح بين 35 و100 متر وفق اختلاف المواقع، وهي مياه عذبة إلى شبه عذبة تصلح لريّ البساتين والأنشطة الصغيرة عالية العائد، على أن تُضخ باستخدام مضخاتٍ تعمل بالطاقة الشمسية لتقليل التكاليف وضمان الاستدامة دون الحاجة إلى وقودٍ أو كهرباء. وبهذه الوسائل المتكاملة — معالجة مياه الصرف
بالنباتات، والاعتماد الجزئي على المياه الجوفية، وتشغيل الرافعات بالطاقة الشمسية — يصبح إدماج البستنة في المشروع ممكنًا ومربحًا ومستدامًا دون الإخلال بتوازن الدورة المائية، بل مع تحقيق ترشيدٍ مائيٍ وبيئيٍ واقتصاديٍ في آنٍ واحد، مع بقاء تفاصيل الجداول المائية الدقيقة وتصريفات الخزان رهينةً بظروف الأعوام الجافة أو الرطبة ومتابعة فرق المسح الفني المتخصصة.
كما يجب تحديث المشروع بإدخال منظومات الزراعة الذكية الحديثة التي تواكب التطور العالمي في الإدارة الزراعية الرقمية، وتتكامل مع بيئة التحرير الشامل والحوكمة والرقمنة، بما يرفع كفاءة استخدام المياه والطاقة، ويُحسن الإنتاج، ويُقلل الفاقد في كل مراحل العملية الزراعية.
إن النهضة الزراعية لا تتحقق إلا بالتوثيق والتحليل المؤسسي المتكامل. ومن المفيد أن تتكامل هذه التصورات والأوراق البحثية مع الرؤية الوطنية الشاملة لإعادة تأهيل مشروع الجزيرة، فيُبنى القرار على بياناتٍ دقيقةٍ ودراساتٍ تطبيقيةٍ واقعية، لا على اجتهاداتٍ جزئيةٍ أو انطباعاتٍ عامة، وأن يتسق كل ذلك مع الإصلاح العام للبيئة الكلية للدولة.
إن الإصلاح لا يمكن أن ينشأ ويترسخ ويستمر ما لم يقم على منظومةٍ ثلاثيةٍ شبيهةٍ بما تأسس عليه مشروع الجزيرة في بداياته، تقوم على توزيعٍ دقيقٍ للأدوار بين الدولة والمزارع وشركةِ قطاعٍ خاصٍّ مؤهلةٍ علميًا وماليًا وفنيًا وتسويقيًا، تعمل وفق عقودٍ نموذجيةٍ بمعايير عالمية تُدار في إطار بيئةٍ كليةٍ صحيةٍ ومعافاةٍ تضمن العدالة والشفافية والمحاسبة والاستمرارية. فوجود الشركة الخاصة المؤهلة ليس ترفًا إداريًا، بل هو الضامن العملي لإحكام التنفيذ والتمويل معًا؛ إذ تتولى الشركة تمويل المزارع تمويلًا كاملًا يشمل كل مراحل العملية الإنتاجية من التحضير إلى الحصاد، وفق حزمٍ تمويليةٍ مشروطةٍ بالالتزام الفني ومغطاةٍ بتأمينٍ زراعيٍّ يوزّع المخاطر ويصون الاستدامة، مقابل نصيبٍ محددٍ من العائد العام وفق عقدٍ شفافٍ يُوثَّق رقميًا. وبذلك يتحرر المزارع من أعباء التمويل والديون، ويُصبح التركيز على جودة الإنتاج والانضباط الفني، فيما تضمن الشركة كفاءة الإدارة والتسويق، وتخضع في الوقت نفسه لرقابة الدولة والحوكمة الرقمية.
ويمكن تطوير نموذج الإدارة المقترح من خلال تقسيم مشروع الجزيرة إلى وحداتٍ إنتاجيةٍ متخصصةٍ متكاملة، تشمل مجالات الزراعة والحيوان والبستنة والصناعات التحويلية، بحيث تُوكل كل وحدةٍ إلى شركةٍ متخصصةٍ ذات خبرةٍ فنيةٍ وإداريةٍ وتمويليةٍ وتسويقيةٍ عالية في مجالها، تعمل جميعها تحت إشرافٍ تنسيقيٍ موحّدٍ يربطها بالشركة القابضة المبرم معها العقد المركزي لإدارة المشروع بكامله، وفق نظامٍ يضمن وحدة القرار الاستراتيجي وتعدد الكفاءات التنفيذية في آنٍ واحد. وتقوم الجهةُ الموكلةُ بقطاع الزراعة المحصولية بتقديم التصور العلمي الأمثل للدورة الزراعية في كل موسم، بما يحقق أعلى عائدٍ اقتصاديٍ ممكنٍ مع الحفاظ على خصوبة التربة والتوازن البيئي، لتصبح الدورة المحصولية نتاجًا للبحث العلمي والتحليل الفني الدقيق، لا للاجتهاد أو العادة، وهكذا بقية المحاور والقطاعات. ويُعدّ هذا النموذج من أرفع الصيغ الإدارية المطبّقة عالميًا في إدارة المشروعات الزراعية والصناعية العملاقة، إذ يجمع بين التركيز المركزي في التخطيط والتخصص الميداني في التنفيذ، وهو النموذج ذاته المعمول به في عددٍ من الدول الرائدة زراعيًا وصناعيًا، حيث تُدار المنظومات الإنتاجية المتكاملة من خلال شركةٍ قابضةٍ مركزيةٍ تشرف على
وحداتٍ متخصصةٍ متعاقدةٍ معها وفق معايير دقيقةٍ للحوكمة والكفاءة والاستدامة. على أن يُعاد طرح إدارة المشروع كل فترةٍ زمنيةٍ محددةٍ عبر منافسةٍ علنيةٍ وشفافة، تتيح تقييم أداء الشركة القابضة وتجديد التعاقد معها إن أثبتت كفاءتها، أو استبدالها بشركةٍ أخرى أكثر تأهيلًا عند الحاجة، وذلك لضمان تجدد روح المنافسة وبقاء المشروع في أعلى درجات الانضباط والإبداع المؤسسي، بعيدًا عن الجمود أو الاحتكار الإداري.
ولأن كل ما سبق — من علفٍ وبستنةٍ وتمويلٍ وحوكمة — ينهض على الماء، فجدوى الإصلاح برمّته رهينة باستعادة الانضباط المؤسسي في إدارة الريّ. فمن المهم التذكير بأن نظام الريّ الذي أُنشئ منذ تأسيس المشروع عام 1925 مثّل أحد أعمدته الكبرى. فقد صُمِّم على يد الإدارة البريطانية بمنظومةٍ هندسيةٍ وإداريةٍ دقيقةٍ ومحكمة، تولّت فيها الحكومة ممثلةً في إدارة الريّ تشغيل وصيانة الشبكة المائية من خزان سنار حتى الترع الفرعية، وفق جداول صارمة للانسياب والمناوبات. أما شركة Sudan Plantations Syndicate فكانت مسؤولة عن الجوانب الزراعية والإدارية والتسويقية دون تدخل في المياه، بينما اقتصر دور المزارع على الزراعة ضمن الخطة المقررة دون أي أعباء تمويل أو صيانة. وبعد السودنة، انتقلت الإدارة إلى الحكومة عبر مجلس إدارة المشروع بالتنسيق مع وزارة الريّ، فاستمر النظام نفسه تقريبًا مع درجةٍ من الانضباط. غير أنّ التحولات المؤسسية منذ أواخر التسعينات، بعد إدخال نظام جمعيات مستخدمي المياه (Water Users Associations)، ثم تقنينه لاحقًا بقانون 2005، أدت إلى تفكك وحدة القرار المائي، وتداخلت الصلاحيات بين الوزارة والمجلس والمزارعين، فتعددت الجهات دون تنسيقٍ كافٍ أو تسلسلٍ إداريٍّ واضح، ما أضعف كفاءة النظام وأفقده هيبته الفنية. وهكذا تحوّل الريّ من منظومةٍ مركزيةٍ منضبطةٍ تُدار بعقلٍ هندسيٍّ واحد إلى نظامٍ متداخلٍ تتنازعه الصلاحيات والتمويل، فاختلّت دقّته وتراجعت إنتاجيته.
ولعلاج هذا الخلل التاريخي في إدارة الريّ، يقترح النموذج الثلاثي الجديد أن تُناط مسؤولية تشغيل وصيانة شبكة الريّ بالكامل بالشركة القابضة المتعاقدة مع الدولة، باعتبارها الجهة التنفيذية الوحيدة التي تملك الانضباط الفني والإداري والتمويلي اللازم، بينما تظل ملكية البنية التحتية المائية — من خزانٍ وترعٍ رئيسيةٍ وفرعيةٍ — ملكًا عامًا للدولة تشرف عليه وزارة الريّ بوصفها جهة رقابة وتنظيم وتفتيش لا جهة تشغيل. وتتولى الشركة القابضة تنفيذ أعمال الصيانة الدورية وإدارة الانسياب المائي وفق معاييرٍ رقميةٍ دقيقةٍ تخضع لرقابةٍ مباشرةٍ من مجلس إدارة المشروع والحوكمة الرقمية للدولة. أما المزارع فلا يتحمل
أي مسؤوليات تشغيلية أو تمويلية في نظام الريّ، بل يلتزم فقط بجدول المناوبات المعتمد وبالاستخدام الرشيد للمياه ضمن حقله. وبهذا الترتيب تعود وحدة القرار الهندسي التي كان يتميز بها المشروع في عهده الذهبي، ولكن بروحٍ حديثةٍ قائمةٍ على الحوكمة والرقمنة والمساءلة التعاقدية، فتزول حالة التنازع بين وزارة الريّ ومجلس الإدارة والمزارعين، وتُستعاد دقّة الانسياب وكفاءة الريّ كما كانت في الأصل، بل بصورةٍ أكثر شفافيةً واستدامة. كما يتضمن العقد الثلاثي نصوصًا صريحة تلزم الشركة القابضة بتوفير التمويل الكافي لأعمال الصيانة والتشغيل والتطوير التكنولوجي، على أن تُخصم تلك التكاليف ضمن منظومة المحاسبة الرقمية الشفافة، وتخضع لتدقيقٍ سنويٍّ مستقل، مع حق الدولة في فسخ العقد أو عدم تجديده حال ثبوت أي إخلالٍ فنيٍّ أو إداريٍّ أو مالي.
وباكتمال علاج ملف الريّ تعاقديًا وتشغيليًا، يستقيم المعنى المؤسسي العام للإصلاح: إنها ليست خصخصةً عشوائية، بل شراكة إنتاجية متوازنة تجمع بين كفاءة الإدارة الخاصة وضمانات الرقابة العامة ومصالح المزارعين، لتعيد الانضباط والعدالة إلى قلب العملية الإنتاجية. وبهذه الصيغة المتوازنة بين الدولة والمزارع والشركة الخاصة، يتحقق جوهر النهضة الزراعية الحديثة: تحريرٌ يطلق الطاقات، وحوكمةٌ تضبط المسار، ورقمنةٌ تضمن الشفافية والاستدامة — فتعود الجزيرة كما كانت، بل أعظم مما كانت، نموذجًا للعلم حين يقود السياسة، وللإدارة حين تُحسن توظيف الطبيعة والعقل معًا.
ونواصل في المقال القادم (3 من 3) إن شاء الله، تناول بُعدٍ أعمق في القطاع الحيواني عبر إدخال الجاموس كركيزةٍ إنتاجيةٍ واقتصاديةٍ جديدة ضمن الدورة الزراعية المتكاملة لمشروع الجزيرة.





