محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..بين ميكافيلي والإسلام

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..بين ميكافيلي والإسلام
في مطالع القرن السادس عشر، حين كانت أوروبا تئنّ تحت وطأة الحروب والمؤامرات، وتتنازعها الممالك والكنائس والإقطاعيات، ظهر رجل من فلورنسا اسمه نيقولا ميكافيلي، حمل قلمًا صار سلاحًا جديدًا في ميدان السياسة، وكتب به كتابه الأشهر الأمير الذي غيّر وجه الفكر السياسي الغربي. لم يكن ميكافيلي فيلسوفًا متأمّلًا في المثاليات، بل كان ابن عصرٍ تمزقه الدماء وتتحكم فيه القوة، فخرجت أفكاره قاسية كواقعه، باردة كحساباته. في نظره، الحاكم ليس قدوةً أخلاقية، بل قائدٌ براجماتي عليه أن يفعل ما يلزم ليبقى، ولو كذب أو خان أو بطش، فالغاية عنده تبرّر الوسيلة، والسياسة فنّ البقاء لا فنّ الفضيلة.
تلك كانت بذرة المدرسة الواقعية في الفكر الغربي التي فصلت الأخلاق عن الحكم، وجعلت المصلحة محورًا تدور حوله جميع القيم. لقد أرسى ميكافيلي مذهبًا سيستمر قرونًا في بنية السياسة الحديثة، إذ تحوّل الأمير الفرد في كتابه إلى الدولة الحديثة في الواقع. فبعد أن كان الحاكم وحده هو الفاعل غير المحاسَب، صارت المؤسسة السياسية نفسها هي الفاعل الجديد. فالدولة الغربية المعاصرة، وإن وضعت قوانين للرقابة والشفافية والمحاسبة الشكلية، إلا أنها في جوهرها تواصل تطبيق الدهاء الميكافيلي ذاته، ولكن بآليات مؤسسية لا فردية. فالمصالح القومية والاستراتيجيات الكبرى تُدار اليوم بالمنطق نفسه: الغاية تبرّر الوسيلة، ولو سُمّيت باسم جديد هو المصلحة الوطنية العليا.
الحاكم الغربي اليوم يُقيَّد بالقانون في الداخل ويُطلَق في الخارج؛ فهو خاضعٌ للمحاسبة الإجرائية أمام القضاء والبرلمان، لكنه في السياسة الدولية يتصرّف كفاعلٍ لا كمحاسَب، تقوده المصالح لا المبادئ. ولذلك ترى الدولة التي ترفع شعار حقوق الإنسان تدعم في الوقت نفسه نظامًا ظالمًا أو حربًا مدمّرة إذا اقتضت مصلحتها. فالمحاسبة الغربية قانونية ومصلحية لا أخلاقية ولا روحية؛ ما دام الحاكم لم يُدن قضائيًا فهو ناجٍ سياسيًا، حتى لو خالف ميزان العدالة الإنسانية. وهكذا تجاوز الغرب ميكافيلي في الشكل، لكنه لم يتجاوزه في الجوهر؛ استبدل الدهاء الفردي بالواقعية المؤسسية، وبدل أن يقول الغاية تبرّر الوسيلة، صار يقول المصلحة تبرّر القرار. لم يمت ميكافيلي، بل توزّع فكره على الأنظمة الحديثة بأسماء جديدة كـ«البراغماتية السياسية» و«الواقعية الدولية» و«الأمن القومي»، وكلها تجليات معاصرة لمبدئه القديم بثيابٍ جديدة. بل يمكن القول إن ميكافيلي تحوّل من شخصٍ إلى نظام، ومن كتابٍ إلى ثقافةٍ تحكم العالم.
أما الإسلام، فقد سبق ميكافيلي والتاريخ معًا في تقديم تصورٍ آخر للسياسة، لا يقوم على المكر ولا على المثالية الحالمة، بل على توازنٍ دقيق بين القوة والعدل، بين الحزم والرحمة، بين المصلحة والمبدأ. فالقرآن الكريم حين قال:
{الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ}،
كان يرسم ملامح دولةٍ تُقام على الإيمان، وتُحكم بالضمير قبل السيف. فالدولة في الإسلام ليست غايةً في ذاتها، بل وسيلة لإقامة العدل، وتحقيق الكرامة الإنسانية، وصون مقاصد الشرع في النفس والمال والدين والعقل والحرية.
فالحاكم المسلم ليس سيدًا على الناس بل خادمٌ للأمة، مسؤول أمام الله قبلهم. وعندما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: «والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه»، كان يمارس الحزم السياسي لا التشبث بالسلطة، لأن السلطة في الإسلام تكليفٌ لا تشريف. وحين قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لو أن بغلةً عثرت بالعراق لسُئل عنها عمر: لمَ لمْ تمهِّد لها الطريق؟» كان يؤسس لمبدأ المحاسبة الذاتية والضمير المسؤول، لا لمبدأ المصلحة الباردة. أما عمر بن عبد العزيز، فحوّل العدل إلى واقعٍ ملموس حتى قيل: «كان الناس يخرجون بزكاتهم فلا يجدون من يقبلها». إنها السياسة التي تُثمر أمنًا وعدلًا ووفرة، لا دهاءً وخداعًا وغلبة.
في هذا المنهج الرباني لا تُفصل الوسيلة عن الغاية، لأن الوسيلة جزء من المقصد، والغاية الصالحة لا تُنال بطريقٍ فاسد. فبينما جعل ميكافيلي الغاية تبرّر الوسيلة، جعل الإسلام الغاية تُهذِّب الوسيلة. ولئن كانت السياسة في الغرب صراعًا للبقاء، فإنها في الإسلام أمانةٌ للبناء. فالمعيار ليس في طول بقاء الحاكم في السلطة، بل في قدر ما أقام من عدلٍ وما رفع من ظلم. والعدل في الإسلام ليس شعارًا أخلاقيًا، بل هو قانون الوجود، كما قال تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}.
إنّ العالم اليوم، وهو يتأرجح بين جموح القوة وتهافت القيم، أحوج ما يكون إلى استلهام هذا الميزان القرآني الذي يردّ السياسة إلى جوهرها الأخلاقي، ويُخضع الوسائل لصفاء المقاصد. فالدولة العادلة في الإسلام ليست وعظًا طوباويًا ولا مثالية حالمة، بل نظامٌ عملي واقعي يجعل الشفافية بديلاً عن الخداع، والمحاسبة بديلاً عن البطش، والإصلاح الكُلِّيَّ بديلاً عن المؤامرة. وعندما تخضع السلطة لمنطق القيم لا العكس، يتحول الحكم من حيلةٍ للبقاء إلى وسيلةٍ للبناء، ويستعيد الإنسان مكانته كغايةٍ لا كوسيلة، ويعود للسياسة وجهها الإنساني بعد طول اغتراب.
وهكذا، يظلّ المنهج الإسلامي في جوهره الإنساني ومقصده الأخلاقي هو وحده القادر على أن يحرّر السياسة من دهاء ميكافيلي، ويعيدها إلى نور العدل الإلهي، حيث لا تُفصل القوة عن الرحمة، ولا تُباع القيم بثمن البقاء، بل تُصان الكرامة ويُقام العدل، فيبقى الملك، رمزًا للعزة والكرامة والأمن والرحمة والعطاء والسكينة.





