محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..الإقطاعية التكنولوجية: من الديزل إلى الخوارزميات

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..الإقطاعية التكنولوجية: من الديزل إلى الخوارزميات
يقدّم المفكر والاقتصادي اليوناني يانيس فاروفاكيس، وزير المالية الأسبق وأستاذ الاقتصاد المعروف، في كتابه الأخير Technofeudalism: What Killed Capitalism أطروحة صادمة مفادها أن الرأسمالية التي حكمت العالم قرونًا قد انتهت، وحلّت محلها مرحلة جديدة أسماها: الإقطاعية التكنولوجية.
يشرح فاروفاكيس أن القوة الاقتصادية عبر التاريخ انتقلت من المحرك البخاري إلى الديزل والكهرباء، ثم إلى الرأسمالية القائمة على التبادل الحر. غير أن القرن الحادي والعشرين شهد تحوّلًا جذريًا، حيث لم تعد المصانع والآلات هي مصدر النفوذ، بل الخوارزميات والبيانات ورأس المال السحابي. شركات التكنولوجيا العملاقة مثل غوغل وأمازون وفيسبوك وعلي بابا لم تعد مجرد مؤسسات تجارية، بل أصبحت إقطاعيات رقمية يفرض أصحابها سلطتهم على الأفراد والدول معًا.
في هذا النظام الجديد لم تعد السوق مفتوحة كما كان الحال في الرأسمالية الكلاسيكية، بل تحولت المنصات إلى سوق وحَكَم ولاعب في وقت واحد. من يريد البيع أو الشراء أو حتى التعبير، لا بد أن يمر عبر هذه البوابات الرقمية. شبّه فاروفاكيس الإنسان المعاصر بـ”القن” في العصور الوسطى، أي الفلاح التابع للإقطاعي، لكنه أوضح أن الصورة اليوم أشد قسوة: فنحن مستعبَدون رقميًا، نمنح بياناتنا وجهدنا بلا مقابل، فيما يحتكر “الإقطاعيون الجدد” الخوارزميات والمنصات ويعيدون بيعنا لأنفسنا.
يطلق فاروفاكيس على هذه الأداة الجديدة اسم رأس المال السحابي. وهو ليس مصنعًا أو منجمًا، بل منظومة من الخوادم والخوارزميات والبيانات التي تمنح أصحابها سلطة غير مسبوقة. فبائعو أمازون يدفعون عمولات ضخمة، والمعلنون أسرى لغوغل، والمستخدمون يقدمون بياناتهم مجانًا، ليصبحوا عمليًا وقودًا لهذا النظام.
وفي قلب هذه التحولات، تبرز الصين كقوة تنافس أمريكا. فإلى جانب منصاتها الرقمية العملاقة، طورت بكين اليوان الرقمي الذي يمكن أن يفتح بابًا لنظام مالي عالمي جديد يتجاوز الدولار وشبكة SWIFT. وهذا يشكل تهديدًا مباشرًا للهيمنة الاقتصادية الغربية، ويمثل بداية صراع عالمي بين “إقطاعيات تكنولوجية” كبرى حول من يسيطر على الخوارزميات التي تدير الاقتصاد.
هكذا، يخلص فاروفاكيس إلى أن الرأسمالية لم تمت على يد الاشتراكية كما توقع ماركس، بل قُتلت من الداخل حين أنجبت الخوارزميات التي أطاحت بها. النظام الجديد يقوم على دفع الإيجار المستمر للمنصات بدلًا من الإنتاج والتبادل الحر. وهو نظام يهدد الديمقراطية، يفاقم الفوارق الطبقية، ويحول الشعوب إلى أقنان رقميين لا يملكون قرارهم.
غير أن هذه الصورة القاتمة تخفي أيضًا فرصًا نادرة لبعض الدول. وإذا كان كثير من البلدان الكبرى مترددة في الانفكاك من قبضة الغرب لتشابك مصالحها معه، فإن السودان يملك فرصة تاريخية فريدة. فالغرب أصلًا يحاصره بالعقوبات ويمنعه من الاستفادة من موارده، ما يعني أن السودان لن يخسر شيئًا بالتحرر من المنظومة الغربية، بل على العكس سيحصد فوائد هائلة إذا اتجه نحو النظام المالي الرقمي الصيني.
كيف يمكن تحقيق ذلك عمليًا؟
أولًا: البدء في اعتماد اليوان الرقمي في تجارة السودان الخارجية، خصوصًا صادرات الذهب والسمسم والماشية والقطن، لتقليل الاعتماد على الدولار.
ثانيًا: الانضمام إلى أنظمة التحويل المالي الآسيوية كبديل لنظام SWIFT الذي يسيطر عليه الغرب.
ثالثًا: عقد شراكات مصرفية مباشرة مع الصين لتطوير أنظمة الدفع وربطها بالاقتصاد العالمي الجديد.
رابعًا: إطلاق بوابة رقمية سيادية تعتمد على تقنيات صينية وروسية لتكون منصة وطنية للتجارة والتحويلات.
خامسًا: الاستفادة من تجربة الصين في الرقمنة وربطها بالتحرير الاقتصادي، ليصبح السودان بيئة جاذبة للاستثمارات.
ولكي تكون الصورة أكثر وضوحًا: تخيّل أن صادرات السودان من الذهب أو السمسم تباع مباشرة باليوان الرقمي عبر منصات صينية، بعيدًا عن الدولار والعقوبات الغربية. هذا يعني وصول الموارد كاملة إلى البلاد بلا اقتطاع ولا تحكم خارجي.
إن السودان، إذا أحسن استغلال هذه اللحظة، يمكن أن ينتزع استقلاله الاقتصادي الحقيقي، ويحرر قراره المالي من الهيمنة الغربية التي كبّلته لعقود، ويصنع لنفسه موطئ قدم في عالم جديد تحدده الخوارزميات لا المحركات.
وكما يلخص فاروفاكيس أطروحته بعبارة مكثفة:
“لم تعد الأسواق تحدد مصائرنا، بل الخوارزميات.”