مقالات

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..الخيزران: ذهبٌ أخضر

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..الخيزران: ذهبٌ أخضر

 

 

يعاني السودان منذ سنوات طويلة أزمة متفاقمة في الأخشاب. الغابات الطبيعية تتناقص بفعل القطع الجائر والرعي الجاف، بينما يعتمد السوق المحلي على الاستيراد بأسعار متزايدة تستنزف العملة الصعبة، وتنعكس مباشرة على المواطن في هيئة ارتفاع جنوني لأسعار الأثاث ومواد البناء. هذه الأزمة البنيوية لا تمس المستهلك فقط، بل تضرب قطاعات حيوية مثل البناء والأثاث والصناعات الورقية. في مواجهة هذا الواقع، يبرز الخيزران كخيار استراتيجي قادر على إحداث تحول كبير في مشهد الأخشاب السوداني.

الخيزران نبات فريد بخصائصه؛ إذ يُعد أسرع النباتات الخشبية نموًا على سطح الأرض. فمعدل نموه اليومي يتراوح عادةً بين 30 و90 سم، وقد يصل في بعض الأنواع مثل موسو (Phyllostachys edulis) إلى متر كامل في اليوم الواحد تحت الظروف المثالية من حرارة ورطوبة وتربة خصبة، أي ما يعادل أربعة سنتيمترات في الساعة تقريبًا، وهي معدلات نمو موثقة عالميًا تجعل من الخيزران الأسرع إحلالًا بين المواد الطبيعية. هذا النمو المتسارع يجعل من الخيزران بديلًا عمليًا للأخشاب التقليدية التي تحتاج لعقود حتى تصل إلى مرحلة الحصاد.

ميزة الخيزران أنه متجدد، لا يُقتلع عند الحصاد وإنما تُقطع سيقانه بينما تبقى الجذور حية تنتج سيقانًا جديدة عامًا بعد عام، ما يمنحه استدامة قد تمتد لخمسين سنة وأكثر. كما أن قوته الميكانيكية عالية؛ إذ تفوق بعض أنواعه الصلب في مقاومة الشد، وهو خفيف الوزن وسهل المعالجة، ما يجعله مادة مثالية للبناء والأثاث وصناعة الألواح والباركيه. وقد أثبتت التجارب العالمية أن الخيزران يمكن أن يستخدم في مجالات إنشائية متعددة: كبديل جزئي لحديد التسليح في الخرسانة للمباني الصغيرة والمتوسطة بعد معالجات خاصة، وفي صناعة الأسقف والهياكل الخفيفة المقاومة للزلازل، وفي الأعمدة إذا رُبطت سيقانه معًا، وكذلك في التبليط عبر تحويله إلى ألواح باركيه متينة مقاومة للرطوبة، وفي صناعة السياجات والجدران الفاصلة، بل وحتى في ألواح مركبة مع الأسمنت أو البلاستيك لتوفير بدائل عصرية للعزل والتشييد. بذلك يتحول الخيزران إلى مادة بناء خضراء، صديقة للبيئة وموفرة للتكلفة، تصلح خاصة للمساكن الريفية والمباني منخفضة الكلفة.

السودان يمتلك المقومات الكافية لنجاح زراعة الخيزران: أراضٍ طميية خصبة على ضفاف النيل، مياه وفيرة من النيل والترع والآبار، وأيدٍ عاملة متاحة، إضافة إلى موقع استراتيجي يؤهله للتصدير إلى أفريقيا والخليج وشمال أفريقيا. ويُذكر أن السودان يضم أصلًا نوعًا محليًا من الخيزران هو البامبو الإفريقي (Oxytenanthera abyssinica) المنتشر في النيل الأزرق وجنوب كردفان، وهو يتحمل الجفاف ويُستخدم محليًا في السياجات والأدوات البسيطة، لكنه أقل ملاءمة للتصنيع الكبير لقصبته الصغيرة. في المقابل، يمكن توطين أنواع عالمية أثبتت جدارتها: مثل Dendrocalamus asper (الخيزران العملاق) المثالي للأعمدة والهياكل، وBambusa balcooa المقاوم للجفاف والمناسب للسقالات والورق، وGuadua angustifolia من أمريكا اللاتينية المعروف بـ”الفولاذ النباتي” لقوته الفائقة في البناء، بينما يمكن لموسو أن ينجح في المناطق الرطبة نسبيًا أو مع أنظمة ري حديثة وتغطية للتربة. الجمع بين المحلي والمستورد يفتح بابًا واسعًا لاستخدامات متعددة تبدأ من السياجات البسيطة إلى صناعة الألواح والباركيه والهياكل المعمارية الحديثة.

اقتصاديًا، الأرقام مغرية. فالفدان الواحد بعد النضج (ابتداءً من السنة الرابعة تقريبًا) يمكن أن ينتج 10–12.5 طنًا من السيقان سنويًا. إذا بيعت خامًا بسعر يتراوح بين 200 و400 دولار للطن، فإن العائد سيكون في حدود 2,000–5,000 دولار للفدان سنويًا. أما إذا دخلت هذه السيقان في التصنيع إلى ألواح وباركيه وأثاث، فإن سعر الطن يقفز إلى 1,000–2,500 دولار، أي أن الفدان الواحد يمكن أن يدر 10,000–25,000 دولار سنويًا. هذا العائد السريع والمستدام يجعل الخيزران استثمارًا ذا جدوى عالية مقارنة بالدورة الطويلة لأشجار الأخشاب التقليدية.

ولنجاح المشروع، لا بد من حزمة سياسات داعمة: إعفاءات جمركية وضريبية لاستيراد الشتلات والمعدات، تمويل ميسر بفترات سماح تتماشى مع دورة الإنتاج، تخصيص أراضٍ بحق انتفاع طويل الأجل، وإدماج منتجات الخيزران ضمن مشتريات الدولة خاصة في الأثاث المدرسي والمكتبي ومشروعات البناء. كما أن الشراكة مع المركز الدولي للخيزران والراتان (INBAR) ستوفر دعمًا فنيًا وتضمن إدخال أصناف مناسبة وخالية من الأمراض، مع تبنّي المعايير الدولية مثل ISO 22157 لاختبار الخواص الميكانيكية للقصب بما يضمن جودة الاستخدام الإنشائي.

الخيزران إذن ليس مشروعًا زراعيًا عاديًا، بل منظومة إحلال صناعي واستراتيجي، يجمع بين الجدوى الاقتصادية والاستدامة البيئية وسرعة العائد. فإذا ما استثمر السودان في زراعته ومعالجته، فبإمكانه خلال خمس سنوات أن يغطي جزءًا كبيرًا من احتياجاته المحلية من الأخشاب، ويقلل فاتورة الاستيراد، ويوفر آلاف الوظائف، ويفتح بابًا لصادرات جديدة. وإذا توسع السودان إلى نطاق قومي، وليكن على مساحة مائة ألف فدان مثلًا، فإن النتائج ستكون هائلة: إنتاج يفوق المليون طن سنويًا، وتشغيل مباشر لما بين خمسين إلى خمسة وستين ألف عامل في الزراعة والتصنيع، إضافة إلى عشرات الآلاف في النقل والخدمات. كما يمكن أن يحقق صادرات تصل قيمتها إلى ما بين مليار إلى مليارين ونصف دولار سنويًا إذا دخلت المنتجات في التصنيع، مع تخفيف فاتورة الاستيراد بما يتراوح بين 250 و400

مليون دولار سنويًا، أي بنسبة إحلال قد تصل إلى سبعين في المائة من احتياجات السوق المحلي من الأخشاب والمنتجات الخشبية. بهذا لا يكون الخيزران مجرد محصول جديد، بل ذهبًا أخضر واستراتيجية اقتصادية كبرى قادرة على إعادة تشكيل قطاع البناء والأثاث والصناعة الورقية في السودان، خاصة إذا تزامن مع بيئة كلية صالحة قائمة على التحرير الشامل والحوكمة والرقمنة ونفاذ القانون، بما يضاعف من سرعة وجدوى الإفادة منه ويجذب الاستثمارات الكبرى إليه.

إنه بحق ذهبٌ أخضر يمكن أن يحل أزمة الأخشاب في السودان، ويكون أحد أعمدة نهضته الاقتصادية إذا ما بُدئ فيه بخطوات عملية واضحة اليوم قبل الغد.

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى