مقالات

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..سورة العصر… إستراتيجية نهوض الأمم

 محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..سورة العصر… إستراتيجية نهوض الأمم

 

 

سورة العصر، رغم قِصر آياتها، تحمل أعظم خارطة طريق ربانية للنهضة والإصلاح، وتضع بين أيدينا أربعة أعمدة لا تقوم حياة الأفراد ولا عمران الأمم بدونها: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر. قال الإمام الشافعي: «لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم»، إشارةً إلى شمولها وكفايتها كقانون للتغيير.

هذه الأعمدة ليست مجرد توجيهات وعظية، بل هي سنن ربانية لا تتبدل. الإنسان – فردًا كان أو جماعة – في خسران محقق إذا غاب عنه أحدها، ولا نجاة إلا بتحقيقها مجتمعة. فالإيمان يوجّه المقصد ويضبط النية ويفعّل الرقابة الذاتية، والعمل الصالح يترجم الفكرة إلى أثر ملموس، والتواصي بالحق يضمن النقد الذاتي والمراجعة المستمرة، والتواصي بالصبر يحمي المشروع من الانهيار أمام الابتلاءات والمقاومات.

الإيمان بالله تعالى في المنظور الإسلامي هو الأكمل والأتم، لأنه يجمع صفاء العقيدة وسمو الغاية وشمول المنهج، فيمد الفرد والمجتمع بطاقة معنوية تحفظ التوازن في السراء والضراء، ويفضي بهم إلى النجاة في العاجلة والآجلة. وقد تُقيم بعض المجتمعات تماسكها على مبادئ وضعية تتضمن بعض ما أشارت إليه سورة العصر

كمقومات لنهضة الحياة الظاهرة، لكنها تظل منقوصة في بعدها الروحي. وهذا ما نراه في الغرب: إنجاز مادي وانضباط مؤسسي يقابله فراغ روحي وضغوط نفسية تتجلى في ارتفاع معدلات الاكتئاب والانتحار رغم الوفرة المادية. قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا۟ مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾، أي حتى يعقدوا العزم على التغيير العملي وفق هذه الأعمدة على تفاوت تمثلها.

تاريخ الأمم شاهد على ذلك: الرومان انهاروا حين فقدوا البعد القيمي، والأندلس تفككت حين غاب عنها التواصي بالحق والصبر، والاتحاد السوفيتي سقط لأنه استعجل إصلاحات بلا أساس قيمي. وعلى النقيض، نجحت رواندا في نهضتها المادية بعد مأساتها لأنها اعتمدت الإيمان بالنهضة، والعمل النظيف، والمحاسبة، والصبر الطويل، حتى أصبحت من أسرع الاقتصادات نموًا في إفريقيا.

وفي لغة الإدارة الحديثة، نجد أن العمل الصالح في كيان الدولة يوازي الحوكمة الرشيدة، وسيادة القانون، وكفاءة المؤسسات، ومكافحة الفساد. والتواصي بالحق يترجم إلى الشفافية والمساءلة والمشاركة المجتمعية وحرية الإعلام. أما التواصي بالصبر فيقابله ما يُعرف اليوم بـ”الصبر الاستراتيجي” والالتزام طويل الأمد بالسياسات، وهو ما يحمي الإصلاح من التراجع أمام العقبات.

وهنا يلتقي جوهر سورة العصر من أجل رقي الأمم وتطورها مع روح التحرير الاقتصادي الشامل: إطلاق الطاقات الإنتاجية عبر إزالة القيود والاحتكارات والبيروقراطية. فقد أثبتت التجارب أن الدول التي جمعت بين التحرير الشامل والحوكمة والرقمنة والتجلد في تنفيذ رؤيتها تضاعفت معدلات نموها مقارنة بغيرها، بينما بقيت الدول المقيدة غارقة في أزماتها.

سورة العصر إذن ليست وعظًا فرديًا فحسب، بل إستراتيجية نهوض صالحة لكل زمان ومكان. وهي تخاطبنا اليوم بلسان الحال: اجعلوا الإيمان أساس النوايا ومصدر المعنى، واجعلوا العمل الصالح المؤسسي جزءًا من هوية الدولة، واجعلوا التواصي بالحق منظومة رقابة ومحاسبة، واجعلوا التواصي بالصبر التزامًا طويل النفس يحمي الإصلاح من التراجع. وبهذه الأعمدة، ومع التحرير الشامل الذي يطلق الاقتصاد، تتحول الأمم من حال الخسران إلى رحاب الفلاح الحضاري، مصداقًا لقوله تعالى:
﴿وَالْعَصْرِ ۝ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ۝ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾.

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى