محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..ضرورة بناء قوة الردع : السودان مهدد بالفناء

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..ضرورة بناء قوة الردع : السودان مهدد بالفناء
الخطر الذي يواجه السودان اليوم خطر كبير ومهدد شامل لوجوده . ومن الغفلة عدم الإنتباه الى أن هذا الإستهداف ليس مجرد صراع داخلي مسلح ، إنما هو عمل جاد صريح لتركيب بديل وظيفي للدولة ، تديره ميليشيا مدعومة خارجياً، تغذيها شبكات تجسس دولية وآلة إعلامية كبيرة وعمل ودبلوماسي واستخباراتي منظم ومنسق . وإضافة إلي ذلك استبدال شعبه بشعوب تجمع من الشتات ، ومحو تاريخه وهويته بالكامل .
والحرب الشرسة التي مازالت بقاياها مستعرة في غرب البلاد ليست هي الأولى ، ولن تكون الأخيرة ، بحيث لا يعني اكتمال النصر فيها نهاية للإستهداف . فبفشلها ودحرها سيستمر سعي الأعداء بلا توقف ، وستتجدد وسائلهم لأن أهدافهم استراتيجية ، لن يتنازلوا عنها بالهزيمة التي حاقت بهم في حرب الكرامة حالياَ .
ومعلوم أن هذا الاستهداف استمر قروناً ولم ينته بالغزو
والاحتلال الانجليزي الذي قضى على الدولة الوطنية المهدية بغض النظر عن ما لابسها وشابها من قصور .
ولم ينته الاستهداف بالاستقلال السياسي ، إنما تغيرت طريقته بالسعي المستمر لاحتواء الدولة والهيمنة على توجهاتها ، وجعلها تسير في ركابهم ، وتعطيل اقتصادها ، وحجب كل ما يمكن أن يؤدي الي نهضتها .
وتتعدد مظاهر الاستهداف بعقوبات اقتصادية لا تتوقف وتتجدد بمبررات غير حقيقية ، وحصار اقتصادي يصدر الثاني قبل أن ينقضي الأول ، ورفض دمج البنوك السودانية بمنظومة المصارف العالمية في التعامل ، وقصر التمويل والمساعدات علي استهلاكات لا تحل مشكلة ولا تبقي أثراً نافعاً .
إن استهداف السودان لا يهدف إلى محاربة حكامه ، بغضّ النظر عن توجهاتهم السياسية ، سواء أكانوا في أقصى اليمين أم في أقصى اليسار أو بينهما ؛ إنما الهدف هو إضعاف أصول البنية البشرية وهدم الهوية الوطنية ، ومنع السودان من النهوض واستغلال مقدراته وموارده الضخمة . وسواء أكان نظام الحكم عسكرياً أم شمولياً أم ديمقراطياً ليبرالياً .
ففي حسابات القوى الغربية الكبرى وإسرائيل ، فإن السودان عملاق نائم ، يمتلك مقومات تؤهله ليكون من بين أقوى الدول إنتاجاً واستقلالاً واستقراراً في المنطقة بمكامن قوته الذاتية بكل ألوانها المختلفة ، من ثروات ، وموقع ، وكتلة بشرية فتية ، وإرث حضاري ، وموقع جيوسياسي نادر . وهذا ما لا يُراد له أن يحدث. بل المطلوب هو تكريس وضع الضعف والتفكيك وديمومته ، ولو على مدى عقود.
لكن ما الذي حال دون أن تحقق الاستراتيجية الدولية كل اهدافها بتفكيك السودان ، وتشتيت شعبه ، وطمس هويته ، وتمزيقه إلى دويلات يهيمنون عليها ، ويستغلون ثرواتها .
السبب الوحيد هو وجود أجهزة الأمن والاستخبارات السودانية التي تحلت بحس وطني صادق ، وكفاءة مهنية عالية ولم تضعف أو تهمل رسالتها السامية عبر كل أنظمة الحكم التي تعاقبت علي القيادة . ولم تفشل مهما ضعفت الحكومات والأنظمة ، وظلت حفيظة على الأمانة حتي اليوم .
لكن قصور الأنظمة السياسية وغياب الرؤية لديها ، والشح الشديد في توفير المقومات اللازمة لأداء هذه المنظومة مكّن من حدوث اختراقات ، لا سيما في المجال الإجتماعي بتسرب الفكر الهدام ، وإضعاف الحس الوطني ، وبعض عناصر الإنحلال الأخلاقي ، وتعطيل النهضة الاقتصادية .
ورغم ذلك حافظت الأجهزة الأمنية والجيش على تراب الوطن ومقوماته الأساسية ، وحالت دون انهياره .
لكن مهما كانت كفاءة هذه الأجهزة الأمنية ،
فإنه لا يمكن التصدي لهذا التهديد المستمر إلا ببناء قوة الردع القادرة علي حماية السودان ، وقطع عشم الطامعين في الهيمنة عليه ليتحولوا الى التعامل معه بندية ، وفق معادلة تبادل المصالح المشتركة .
ويؤكد هذا أن كل الدول العظمى مهما بلغت خلافاتها وتضاربت مصالحها وتصاعد الصراع الاقتصادي والسياسي بينها ، فإنها لا تدخل في مواجهات عسكرية او حروب مباشرة ، لأن كل طرف يعرف قدرة الطرف الآخر على الردع . ويظل إنتاج السلاح يتطور بشكل مذهل ، وبتسابق محموم ليظل حبيس مخازن جيوش هذه الدول مجرد قوة ردع تمنع التعدي .
الردع ليس دعوة لإثارة الحرب ، إنما هو شرط للسلام وعلى العكس فإن الردع القوي هو أقصر طريق للسلام ، وأقوى ضمان للاستقرار ، فالدول التي تمتلك قوة ردع لا تُغزى ولا تُبتز ولا تُفرض عليها التسويات.
ليس هنالك مجال لبقاءالسودان او حدوث أي نهوض اقتصادي أو إصلاح سياسي أو استقرار مجتمعي في ظل غياب الردع الوطني الشامل . إذ لا دولة دون أمن، ولا أمن دون سيادة، ولا سيادة دون ردع .
إن السيادة الوطنية تُحمى بقوة، ولا تُستجدى ببيانات الإدانة، ولا تُؤمن بالمجاملات الإقليمية إنما ببناء الردع الذي هو أساس السيادة، وهو ما يحرر القرار الوطني من الارتهان.
وهذا َما يحتاجه السودان بالضبط ، وهو بناء منظومة متكاملة تُمكّنه من امتلاك قراره ، وبناء ردعه . وهذا يطلب مجموعة مقومات أساسية متكاملة تشمل :
*بناء اقتصاد قوي يمكن من توفير مقومات الردع التي تحتاج الى موارد مالية هائلة وهذا لا يتأتى إلا بالتحرير الشامل للإقتصاد الذي يطلق قوى الإنتاج الوطني من كل القيود البيروقراطية والتجارية والتمويلية، ويفتح الطريق أمام رأس المال المحلي والأجنبي للدخول في منظومة وطنية آمنة ، تحترم السيادة ، وتستند إلى سياسات عادلة وواضحة تشمل تحرير التجارة والاستثمار ، وسعر الصرف دون قيود .
*بناء أنظمة رقابية ذكية وشاملة تضمن التوازن وتحارب الاحتكار،
وتوظيف الإيرادات الناتجة في تعزيز الردع الأمني والدفاعي والتنموي ليصبح الاقتصاد محرّكاً للردع، ويصبح الردع حامياً للاقتصاد . فالدولة التي تمتلك إرادتها الاقتصادية تكون قادرة على تمويل منظومتها الردعية دون الارتهان لأي جهة مانحة أو ابتزاز سياسي أو وصاية خارجية.
*تحرير الإرادة الوطنية من التمويل المشروط والضغوط الإقليمية والدولية.
*هيكلة الدولة حول بُعد سيادي ردعي لا يقبل التنازل ، وتوجيه كل السياسات الاقتصادية، والتعليمية، والإعلامية، والدبلوماسية، خادمة لمنظومة الردع هذه .
*بناء جيش قوي موحد، قادر علي إبراز السودان كقوة مرهوبة الجانب .
*تعزيز أجهزة الأمن والمخابرات، والسيطرة السيادية على المنافذ والحدود والمجال الجوي .
*الخروج من العزلة إلى الشراكة العادلة بما يؤهل السودان للدخول في شراكات دولية متكافئة، مبنية على المصالح لا التبعية. من ذلك على سبيل المثال، الانخراط الذكي والمرن في الأنظمة الجديدة البديلة لنظام الهيمنة الغربية، مثل مبادرة الحزام والطريق الصينية، التي توفر مسارًا جديدًا لتنمية البنية التحتية، وربط السودان بالاقتصاد العالمي، بعيدًا عن شروط الإذعان الغربي.
ومثل هذه المبادرة، تفتح بابًا لدول الجنوب – ومنها السودان – لتصبح جزءًا من نظام عالمي متعدد الأقطاب، دون التخلي عن سيادتها أو ثرواتها. ولذا، فإن الردع السيادي هو المدخل الفعلي للاستفادة القصوى من هذه الشراكات، وإلا تحوّلنا إلى مجرد ممرات لا تملك القرار ولا تحصد العائد.
*تبني دبلوماسية جديدة لا تستجدي، ولا تبرر، بل تُعلن الخطوط الحمراء، وتحشد الدعم في إطار القانون الدولي، وتبني التحالفات وفق المصالح الوطنية لا العواطف أو التوازنات الإقليمية الزائفة ، وأن تكون دبلوماسية ردعية ، تُخاطب العالم من موقع القوة، وتكشف المؤامرات، وتفضح المخططات .
*بناء قاعدة اجتماعية ووعي شعبي يمثل الردع الشعبي عبر وعي المجتمع، والإعلام الوطني، والاصطفاف العام ليشترك في الدفاع عن الوطن، وهذا يتطلب بث الروح الوطنية، وترسيخ مفاهيم الدفاع الذاتي، وتعبئة المجتمع لمقاومة كل أدوات الاختراق الناعم والخشن ، ولا ينتظر الشعب الحماية إنما يُشارك فيها ويُدرك أبعاد الخطر، ويُبادر بالفعل، ويقود معركته بنفسه ، ويُفشل المؤامرات، ويعزل العملاء، ويكشف المتآمرين، ويُربّي أبناءه على أن الوطن ليس سلعة بل رسالة ومسؤولية.
لقد ثبت أن الحروب المعاصرة تبدأ بالاختراق الإعلامي ثم الاختراق النفسي ثم الاختراق السياسي والأمني وكلها تمر عبر الشعوب، لا فوقها
فإما أن تكون الشعوب ساحةً للاختراق ، أو تكون حارسًا للوطن ودرعاً لمشروعه .
مشروع الردع ليس ترفاً، ولا خياراً انتقائياً ، إنما هو شريان الحياة لبقاء السودان كدولة مستقلة ، وركيزة لبناء المستقبل.
فإما أن نمتلك قوة تحمينا ، أو نبقى رهن التهديد والتفكيك إلى ما لا نهاية .
الردع ليس حلماً بعيداً، بل ممكنٌ جداً إذا توافرت الرؤية ، وانعقد العزم ، والتحم المشروع السياسي والعسكري والمدني في جبهة واحدة .
لن يُكتب للسودان استقرار ولا نهوض ولا سلام ما لم يبني الردع السيادي بكل أبعاده .
وهذا هو الطريق الوحيد لعبور الجسر من التهديد إلى التأمين و النهضة.