
محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب:.. بهدوء و تدبر..مشكلة الولايات : فشل الولاة وعجزهم عن انجاز الممكن
فشل ولاة الولايات الحالي لا يمكن تبريره بالمشاكل التي تواجه الحكومة المركزية . صحيح أن الحكومة المركزية تعاني من شح الموارد وضعف الإيرادات بفعل الخلل الهيكلي العميق الناتج عن تقييد الاقتصاد وغياب الأنظمة المتكاملة والرقمنة الشاملة . لكن هذا الواقع لا ينبغي أن يكون شماعة يعلق عليها الولاة فشلهم أو تبرير قعودهم .
وفي الحقيقة فإن ضيق الموارد يزيد من قيمة الإبداع في إدارتهم لولاياتهم ، ويُظهر معدن القادة الحقيقيين الذين يحولون القليل إلى كثير ويجعلون من الممكن واقعاً .
¶ وفي أصل نظم الحكم في العالم عبر التاريخ فإن نظام الحكم المحلي موجود بصرف النظر عن المسميات : ولايات أو مقاطعات أو اقاليم أو مديريات أو إمارات ، والهدف منه تفجير الطاقات المحلية ، واستغلال موارد المناطق ، وتوفير الخدمات بالإمكانات المحلية ، وسياسة الناس في كل منطقة بما يلائمها . لكن إذا كانت الولايات تعتمد علي المركز وتنتظره لحل مشكلاتها فلماذا أنشئت أصلاً .
*في الولايات بدون استثناء تردت الخدمات إلى الحضيض : التعليمية والصحية خاصة في المرافق الحكومية وكذلك خدمات المياه والكهرباء وتلف الشوارع في المدن .
*انهارت صحة البيئة بتراكم الاوساخ والنفايات ، بل زادت الأوساخ بلة بأمطار الخريف التي لم تجد تصريفاً ، فحولت الأوساخ الى مزارع لانتشار كثيف للبعوض والذباب ، الذي كانت ثمرته الأمراض الفتاكة التي أرهقت المواطنين وأزهقت أرواحهم . وبدل السعي لمعالجة جذور المشكلة وجهت موارد هائلة لمعالجة آثارها . فبدل اجتثات الأسباب التي تؤدي لتوالد الذباب والبعوض صرفت الموارد لرش الحشرات بعد توالدها بينما البيئة مناسبة لإعادة انتشارها من جديد .
*انتشرت الفوضى في الأسواق حيث تعرض السلع الفاسدة والسلع غير المطابقة للمواصفات واكتظت الأسواق بلا نظام ولا التزام بضوابط او احترام لقانون . *ازدحمت شوارع المدن واكتظت بدرجة تجعل سير الراجلين عناء ، وسير الراكبين مستحيل ، بسبب رداءة الطرق وغياب الرقابة علي ضبط التحرك والوقوف وما أحدثته الامطار التي لم تجد تصريفاً بإتلاف الشوارع التي هي أغلي البنيات التحتية . ولن نتحدث عن عرض المأكولات بطريقة صحية أو أوزان الخبز وأسعاره فهذا ترف لا مكان له .
*انتشرت الظواهر السالبة الخطيرة كالسلوك غير المتحضر ، واستشرت المخدرات بدرجة وبائية ، وتصاعدت أعداد المدمنين بشكل مخيف وسط الشباب والطلاب مع ضيق في مواعين العلاج وضعف شديد في مواجهة الترويج .
¶إن تردي الخدمات في الولايات ، وعجز أجهزتها عن مواجهة متطلبات حياة المواطنين ، هو في أغلبه ناجم عن قصور إدارة هذه الولايات ، وجمود فكر ولاتها ومسئوليها ، وانغلاقهم في الشكليات ، واهتمامهم بالمظاهر والبروتوكولات ، واعتمادهم على تقارير وإفادات وحدات إدارات ولاياتهم ومحلياتها ، وهي تقارير يعدها نمطيون عاجزون عن الأبداع ، متهربون من مواجهة مسئولياتهم ، همهم الأساسي البحث عن سد الفجوة بين مرتباتهم الضئيلة ومتطلبات أسرهم .
وهم في الغالب يفتقرون إلي الكفاءة المهنية والتدريب العملي وروح العمل الوثابة ، ناهيك عن المبادرة والإبتكار والإبداع في إيجاد الحلول للمشكلات . بل إنهم طوروا نظاماً لتبرير القعود وعدم إمكانية تنفيذ العمل ، يوضح أن العمل لا يمكن تنفيذه لوجود معوقات ، ومن ثم يتجهون إلي تناول الفطور والشاي والقهوة ، ومجالس أنس المكاتب ، والإغراق في هواتفهم تحدثاً وتسلية ، ومن ثم امتطاء سيارات الدولة الفارهة إلي بيوتهم آمنين ، دون شعور بالتقصير أو وخزة الضمير .
ولاة الولايات وموظفوهم يملكون السلطة والموارد والأدوات ، أليس من المخزي أن يُهملوا ما يستطيعون فعله في انتظار ما لن يأتي من المركز؟
¶ إن التعلل بضيق الموارد وعجز الامكانات هو في حقيقته عين العجز وتعلة مردودة على أصحابها :
*فهل منع ضعف الموارد وعجز الامكانات عن توفير السيارات الفارهة الفاخرة للولاة والوزراء وحاشيتهم الضخمة التي تمر كالبرق في مواكبهم الفخيمة تتقدمها الصافرات وأنوار التحذير ..
*وهل عجزت عن توفير خدماتهم وضيافاتهم واستضافاتهم الباذخة .
*وهل عجزت عن توفير مقومات احتفالاتهم وتكريمهم وتكريم من يرضون عنه ..
¶ ولننظر الي الموارد والإمكانات باسئلة نوجهها لولاة الولايات وأجهزتهم وخبرائهم :
*هل يحتاج تفجير طاقات الشباب الهائلة لامكانات مالية وهم الذين لم يتوانوا عن تلبية أي نداء وجه لهم فقدموا الدماء وجادوا بالأرواح . وهل خرج الولاة ووزراؤهم ومعتمدوهم ومديرو محلياتهم من برد المكيفات وطافوا على الشباب في انديتهم وأحيائهم واستنهضوهم في حملات فتح المصارف ونظافة الشوارع وإزالة الأنقاض والمشاركة في التوعية الصحية والتربوية ، مع قليل من التحفيز المقدور عليه بدل تركهم للفراغ وجعلهم نهباً وصيداً للمخدرت والسلوك الخاطيء .
*وهل تحول الإمكانات عن إعمال القوانين التي تنظم البيئة وتحميها من التلف ، مثل قوانين الصحة العامة التي تلزم كل مواطن بنظافة بيته وشارعه وامام محله ومتجره ، وتمنع القاء النفايات والأوساخ في غير مكانها ، بل وتوقع عقوبات رادعة على المخالفين او المتسببين في اتلاف الشوارع والمرافق العامة .
*وألا يمكن لأي والٍ بدون عبء مالي تتحمله ولايته أن يطلق برنامجاً للإنتاج الأسري المنظم ، لتجميع مجموعات من الأسر في القرى أو الأحياء ممن تجمعهم الجيرة أو القرابة ، ومنحهم مساحات صغيرة للزراعة وفق خطة مدروسة تتكامل فيها المزروعات ليتحول الإنتاج الفردي المتناثر إلى إنتاج جماعي متكامل يُغذي وحدات تصنيع أسرية صغيرة ، لتحويل الفول السوداني والسمسم إلى زيوت ، والطماطم إلى صلصة ، والبصل إلى بصل مجفف ، والذرة إلى دقيق معبأ . لتكون النتيجة ليست مجرد زيادة دخل نقدي ، إنما خلق فرص عمل ، وتنمية مهارات ، وتقليل الاعتماد على الأسواق الخارجية .
*وألا يمكن أن يمتد هذا النموذج إلى الإنتاج الحيواني ، عبر تنظيم تربية الدواجن والماعز والأبقار بشكل جماعي ، وربطها بمجازر صغيرة أو مصانع ألبان لتصبح القرية أو الحي وحدة إنتاجية متكاملة ، يعيش أهلها من جهدهم ، ويضيفون إلى اقتصاد ولايتهم ، بدل أن يكونوا عالة على المركز .
*وماذا يكلف الولاية إذا أصدرت توجيهات وأوامر محلية ملزمة لمواطنيها ( مجرد توجيهات) ، بزراعة الأشجار أمام كل بيت ومتجر ومدرسة وناد وتشجيع ذلك ببعض النماذج العملية عبر بعض المبادرين بكل حى او قرية ، وتنظيم تجميع النفايات في أماكن محددة يسهل تجميعها ،ألا يحول ذلك المدن اوالقرى إلي أماكن نظيفة ومرتبة تجذب الاستثمار ، وتُخفف تكاليف العلاج ، وتُنعش الروح العامة .
*وهل يحتاج الولاة إلي مال لبناء شراكات مع الجامعات ومراكز البحوث داخل الولايات للإستفادة من المعرفة العلمية المتراكمة في هذه المؤسسات ، التي يمكن أن تُترجم إلى حلول عملية في الزراعة والطاقة الشمسية وتقنيات المياه والصناعات الصغيرة . ولماذا تبقى الجامعات جزرًا معزولة عن المجتمع بينما يمكن أن تكون رافعة للتنمية المحلية ؟
*حتى الرقمنة الأولية اللازمة لإدارة أجهزة الولاية والتي تضبط الأداء وتسرع الإجراءات وتوقف الفساد هل تعجز الولاية أن تنشئ منصات بسيطة لتوثيق الإنتاج والأسواق والخدمات وتشيع بعض اجهزة التحصيل الالكترونية البسيطة ، لتيسير المعاملات وتوفير المعلومة الدقيقة لكونها اساس كل اصلاح ، ومن دونها يدير الوالي ولايته بعين معصوبة .
¶ إن تفعيل أداء الولايات ممكن وميسور حتى في ظل نظام الدولة العام المعطوب الذي تكبل اقتصاده القيود وتعطل الأنظمة البالية المعوقة أداءه إذا أتخذت خطوات بسيطة شجاعة تشمل :
*تعيين ولاة بكفاءة عالية وقدرة علي الإبداع وابتكار الحلول في سن تجمع كفاءة الخبرة وروح الشباب الوثابة الطموحة .
*وضع برامج كلية لزيادة موارد الولايات وحسن إدارتها بأنظمة رقمية حديثة ومحكمة .
*إلزام الولاة وكياناتهم الإدارية بتفعيل دور المواطن وإشراكه في العمل الجماعي والطوعي .
*تخفيض النفقات الإدارية في الولايات ، وتحديد الامتيازات في الحد الأدنى اللازم لتسيير العمل .
*تسريح جيوش الكسالى والمتعطلين في كل الوحدات ، وإحاطة الوالي بعدد محدود من المستشارين والخبراء ، وأقصاء العاجزين الذين يحيطون بالولاة من المتزلفين المتسلقين الذين لاهم لهم سوى الحصول على هبات وعطايا الولاة ، والذين يضربون سياجاً قوياً حول الولاة ، ويحولون بينهم وبين المواطنين أصحاب الحاجات ، أو الشكاوي والتظلمات ، أو حتى أصحاب المبادرات .
¶ لقد أثبتت تجارب داخل السودان وخارجه أن النهوض ممكن بالإدارة الرشيدة لا بالمال الوفير وحده ، وهناك نماذج تعتبر دليلاَ على ذلك ، فالجمعيات التعاونية في قرى الجزيرة وشمال كردفان رفعت مستوى الناس بجهود بسيطة، وتجربة رواندا بعد الحرب الأهلية شاهد عالمي على ما تصنعه الإرادة حين تُحسن الإدارة.
ونسوق مثالاً صغيراً واحداً لما يمكن أن يسهم به المواطن وهو في ولاية نهر النيل، ليس بتخصيص توجيه تهمة التقصير عليها فهي شريك مع كل الولايات في القصور . ففي إحدى قرى ولاية نهر النيل بادر مواطن عادي من غمار الناس بإصلاح حفرة ضخمة في شارع الأسفلت الرئيس الرابط بين عطبرة وبربر وهو شارع (التحدي)
كانت تتسبب في حوادث وارتطامات يومية و يسمع كل من في الجوار مرارًا دوي سقوط السيارات فيها ليلا ونهارا خاصة الشاحنات الكبيرة. بعد إصلاحها، عاد الهدوء إلى المنطقة، وتوقفت الحوادث، وزال الخطر. والمفارقة أن كثيرا من المسؤولين يمرون عبر ذات الشارع كل يوم بما فيهم والي الولاية نفسه ، وهم يشاهدون عشرات الحفر الأخرى التي لا تزال تُحدث الضرر نفسه أو أشد، دون أن يحرّكوا ساكنًا. وهذه القصة ليست مجرد حادثة، بل رسالة بالغة: إذا كان المواطن العادي قادرًا على إحداث تغيير مباشر وملموس بجهد بسيط، فما بال مشاركة عامة من كل المواطنين تقود الولاية جهدهم وتشجع وتنظم مبادراتهم .
أيها الولاة، المواطن لا يطالبكم بالمعجزات ولا بالمشروعات المليارية ، بل بالجدية والقدرة على التفكير العملي . إن غياب المبادرات يورث اليأس، واليأس أخطر من الفقر ، لأنه يدفع الناس للهجرة أو للفوضى .
إن أعظم إنجاز يمكن أن تحققه ولاياتكم هو إشراك المواطن كشريك لا كمستقبل سلبي . فالوالي ليس منقذاً منفرداً، إنما هو منسق يقود طاقات الناس ويوجهها .
وهنا تبرز فكرة المنافسة الإيجابية بين الولايات حيث يمكن لكل والٍ أن يجعل ولايته نموذجاً ناجحاً ، فيتنافس مع غيره في الإنجازات العملية لا في التصريحات الإعلامية .
إن السودان رغم أزماته ، غني بفرصه وإمكاناته الكامنة ، وكل ولاية تملك من الموارد البشرية والطبيعية ما يكفي لنهضة مصغّرة لو أُحسن توظيفها . والوالي الناجح هو الذي يقرأ واقعه بوعي ، ويستنهض طاقات أهل ولايته ، ويوظفها في مشروعات إنتاجية وخدمية عملية ، بدل انتظار المدد من الخرطوم.
والتاريخ لا يرحم، فمن نجح سيُذكر بالخير ، ومن تقاعس سيحسب ذلك عليه ويسود تاريخه ويسقط في دائرة النسيان .
أيها الولاة ، إن أمامكم فرصة لتكونوا ولاة أفعال لا ولاة أقوال . والفرص في ولاياتكم أكثر من الأعذار . فإن اخترتم العمل والإبداع، سيسجل التاريخ أسماءكم بمداد الفخر ، وإن اكتفيتم بالجلوس في مقاعد المتفرجين فلن يذكركم أحد إلا كجزء من زمن التيه والخيبة .