محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب:.. بهدوء و تدبر..لماذا البؤس والشقاء في ظل الرفاه والرخاء

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب:.. بهدوء و تدبر..لماذا البؤس والشقاء في ظل الرفاه والرخاء
ما الذي يجعل مجتمعات في الغرب والشرق بلغت ذروة الرفاه المادي والتطور المعيشي والتقني تعيسة بائسة . الفرد فيها شقي والأسرة مفككة ، بينما المجتمعات الإسلامية رغم الفقر وضيق العيش تغمر افرادها الطمانينة ، وتتماسك أسرها ومجتمعاتها ، وتعيش سعيدة مطمئنة ؟
الإجابة جمعتها أية واحدة هي قوله تعالى :
“يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ” [الروم: 7].
آية موجزة ، لكنها تصف بدقة بالغة واقعاً حضارياً معقداً يعيشه العالم الحديث ، خاصة في المجتمعات التي بلغت ذروة ما يمكن للإنسان أن يبلغه من التقدم المادي والتنظيم الإداري والرفاه الحسي ، لكنها في المقابل فقدت بوصلة المعنى الداخلي والغاية الكبرى من الوجود .
وقد جاءت هذه الآية في سياق الحديث عن الأمم الغافلة رغم تقدمها الظاهري ، لتبيّن أن المعرفة المجردة بظاهر الحياة الدنيا لا تكفي لإقامة حضارة حقيقية إذا غاب عنها الإيمان بالآخرة ، والوعي بالمسؤولية الأخلاقية والروحية .
تجلّى هذا المعنى في النماذج الغربية والآسيوية المتقدمة تقنياً ، مثل السويد وفنلندا والنرويج ودول الغرب عموماً ، واليابان وكوريا الجنوبية ، حيث تظهر مؤشرات التنمية البشرية أرقاماً مبهرة ، لكنّ خلف هذه الأرقام مشهداً صامتاً من الأزمات النفسية والاجتماعية .
الدول الإسكندنافية تتصدر معدلات استهلاك مضادات الاكتئاب في العالم .
معدلات الإنتحار هي الأعلي في العالم .
وفق إحصاءات الاتحاد الأوروبي فإن أكثر من 40% من الأسر السويدية والفنلندية تتكون من شخص واحد .
وفي اليابان وكوريا، تنتشر العزلة الاجتماعية والانتحار ، خاصة بين كبار السن والشباب ، إلى جانب شيخوخة متسارعة وتراجع حاد في الخصوبة .
ورغم أن تلك الدول تعلم ظاهراً من الحياة: تُتقن التكنولوجيا ، وتتفوق في البنية التحتية ، وتبهر العالم بالأنظمة والمنتجات ، إلا أن الإنسان في داخلها لا يجد إجابة عن سؤال المصير ، ولا يجد سكناً حقيقياً في بيئة تتجه نحو التفكك والعزلة وغياب الرسالة . وهذا هو جوهر التحذير في الآية : أن تُصبح الحياة كلها مجرد مظهر بلا مضمون ، وعلْم بلا هدى ، وتقدّم بلا استقامة .
وفي المقابل، نجد المجتمعات الإسلامية – رغم الفقر والضعف في احتياجات الفرد المادية – ما زالت تحتفظ بتماسك أسري وروحي يُشكل ملاذًا للطمأنينة والسكينة .
فما يزال هناك دفء في البيوت ، ورحمة في العلاقات ، واتصال عميق بالله يمنح الحياة معنىً وثباتاً ، حتى في أحلك الظروف . وهذا التماسك لم يأتِ من فراغ ، بل من عمق المنظومة القيمية المستمدة من الوحي ، الذي يربط بين الدنيا والآخرة ، ويجعل الحياة سعياً واعياً لا مجرد استهلاكٍ أعمى .
الخلل ليس في الرفاه ، بل في القطيعة بين ظاهر الدنيا وباطن الآخرة ، بين العقل المجرد والروح المهتدية ، بين الإنجاز المحسوس والمعنى المستبطن .
ولذلك فإن استعادة التوازن الحضاري لا تكون بالانغلاق أو نبذ المدنية ، وإنما بإعادة وصل المسار المعرفي بقيم الوحي ، وإعادة تعريف التقدم ليشمل الإنسان في قلبه ووعيه ، لا في استهلاكه ومظهره فقط .
ومن عجب ظهور أصوات بدأت تتعالى في المجتمعات الإسلامية تنادي بالتخلي عن الدين وإخراجه من نمط الحياة ، تشبهاً بمجتمعات الغرب والشرق . وذلك طمعاً فيما لديها من رفاه مادي دون إدراك أن ظاهر الحياة الدنيا دون باطن الروح ومآلات الآخرة هو طريق مباشر للتعاسة والبؤس والشقاء .
بينما الصحيح هو السعي لتحقيق الرفاه المادي ، والتطور التقني ، ورخاء العيش ، ضمن روح ممتلئة بالإيمان معمورة بقيم الدين لا يقتصر الأمل فيها على ظاهر الحياة الدنيا إنما يمتد بلا نهاية في حياة آخرة هي السعادة التي لاتنهي ، فلا ينسد الأفق أمام الفرد عند إشباع متطلباته المادية .
وهكذا، تُصبح هذه الآية العظيمة معياراً لفهم مآلات الحضارة ، وبوصلةً لتمييز الطريق: فلا يكون العلم غايةً في ذاته ، ولا يكون التقدّم قطيعةً مع الغاية ، بل يكون ظاهر الدنيا متصلاً ببصيرة الآخرة ، فيتجلّى حينها العمران في أكمل صوره ، مادياً وروحياً ، دنيوياً وأخروياً ، عاقلاً وواعياً .