مقالات

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب:.. بهدوء و تدبر..العفو والإصلاح :جزء من العدالة غفلنا عنه

 محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب:.. بهدوء و تدبر..العفو والإصلاح :جزء من العدالة غفلنا عنه

 

 

لا تتحقق العدالة فقط بوقوف المتخاصمين أمام المحكمة فتحدد من الظالم وتقتص منه ، إنما هناك عنصر مهم يضاف إلى ذلك لتحقيق عدالة أوسع وأشمل ، وهو العفو مقروناً بالإصلاح . وهذا يضيف إلي تحقيق العدالة الرضا والتراضي والتسامح والمودة في المجتمع وبين المتخاصمين أنفسهم . وهو ليس مطلقاً ، إنما هو مقرون بالإصلاح .
وحين نقف أمام قوله تعالى : “وَجَزَٰٓؤُا۟ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ ۥ عَلَى ٱللَّهِ ۚ إِنَّهُ ۥ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ” نجد أنفسنا أمام لفتة قرآنية بالغة العمق والدقة ، تُخرج العفو من دائرة الانفعال العاطفي إلى فضاء الفعل الواعي المسؤول . حيث لم يقصر الأمر الرباني حصول الأجر على العفو فقط ، إنما قرن العفو بالإصلاح ، لتأكيد معنى أن العفو ليس خيراً مطلقاً إلا إذا أدى إلى خيرٍ أكبر وصلاح أوسع ، أو دفع ضراً وشراً فردياً أو مجتمعياً .

وهذا القيد الرباني يحمل في طياته نظاماً أخلاقياِ متكاملاً، يجعلنا نزن العفو بميزان النتائج لا النوايا فقط . فالعفو في ميزان الشريعة ليس إسقاطاً مطلقاً للحق ، أنما هو موقف مدروس يخضع للحكمة وحسن المآلات .
وحين تثبت الجناية وتكون بيئة الإصلاح غائبة ، فإن العفو عن هذه الجرائم قد يؤدي إلى انتشار الفساد والفوضى ، ويهدد أمن وسلامة المجتمع .
وفي الواقع فإن بعض العفو قد يضر أكثر مما ينفع . فإذا ترتب على العفو تمادي الظالم أو تقوية المفسد أو تكرار الأذى ، كان العفو في غير محله ، وخلاف الذي هو أولى . والمجتمع الذي يعفو دون حساب ويصفح دون تقدير ، قد ينتهي به الأمر إلى تكريس الفوضى ، وطمس العدل ، وتكافؤ الظالم والمظلوم .

أما إذا كان العفو يُفضي إلى تهذيب النفوس وتليين القلوب ، وفتح باب التوبة الصادقة فإن تركه حينئذ لا يكون حكيماً .
العفو الحق لا يبرر السكوت عن الجرائم ، ولا يعني تعطيل العدالة ، بل يُراد به ترسيخ العدالة نفسها بأسلوب مختلف . ولذلك فإن ربط العفو بالإصلاح يُعبّر عن منهج قرآني عميق لصلاح الإنسان والمجتمع والدولة ، فكل عفو يجب أن يُسهم في تطهير النفوس لا تثبيت الأذى ، وفي إحياء الضمائر لا تخديرها .

هذا المعنى القرآني لو طُبّق في القضاء وفي السياسات وفي العلاقات الشخصية ، لتحررت المجتمعات من عقدة التساهل المفسد والتشدد المميت . بل يمكن القول إن كثيراً من الفوضى في مجتمعاتنا ناتج من عفو لا يحقق إصلاحاً ، وصفح لا يصاحبه رشد ، وتساهل مع المسيء دون محاولة حقيقية لتغيير سلوكه أو لوقف ضرره .
ولهذا نجد أن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تمثل أوضح تطبيق عملي لهذا الميزان الرباني . فعندما عفا عن أهل مكة يوم الفتح ، لم يكن ذلك عفواًِ عن غفلة ، إنما كان قراراً سياسياً وأخلاقياً بالغ الحكمة ، لأنه جاء في لحظة انتصار شامل ، وقلباً لصفحة الماضي ، وكانت بيئة الإصلاح مهيأة ، حيث القلوب منكسرة ، والناس مستعدة لفتح جديد .

العفو بلا إصلاح يُشبه من يسقي الأرض وهي لا تحتفظ بالماء ، أو من يزرع في أرض مصمتة لم تُحرث . والإصلاح هنا ليس شرطاً خارجياً بل هو روح العفو ذاته ، فإن لم يكن العفو سبباً في تعديل السلوك ، أو رأب الصدع ، أو منع تكرار الظلم والتعدي ، فقد لا يكون مستحباً من الأصل .
وفي مجتمعاتنا كم من مظلوم ظُلم مرتين : مرة بالاعتداء عليه ، ومرة حين قيل له “سامح” ، بينما الظالم لا يزال عند موقفه يكرر فعله ، ويعلو صوته .

وفي النهاية ، فإن العفو حين يكون نابعاً من قوة داخلية واعية ، ومقروناً برؤية إصلاحية واضحة ، فإنه لا يُغني فقط عن العقوبة، بل يُنتج أثراً أعظم منها . أما حين يكون العفو مجاملة أو تهرباً من المواجهة ، أو عاطفة جوفاء ، فهو تفريط يُلبس ثوب الفضيلة زوراً، بينما هو في الحقيقة ممالأة للباطل وإضعاف للحق .
إن ميزان العدل في الإسلام دقيق : لا يُجبر أحدٌ على العفو ، ولا يمنع أحداً منه ، لكنه يدعو إليه إذا كان في مآله صلاح ، ويُحذر منه إن كان في مآله فساد . وهكذا يكون القرآن دائمًا ، كتاب حياة لا مجرد عواطف ، وميزاناً للتصرف لا لتخدير الضمير . ومن هنا، نفهم أن “فمن عفا وأصلح فأجره على الله” ليست دعوة للغفلة ، إنما هي نداء للعقل والبصيرة .

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى