مقالات

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر…تردي الاتصالات السودانية : كيف تستعيد الريادة

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر…تردي الاتصالات السودانية : كيف تستعيد الريادة

 

 

قطاع الإتصالات في السودان الحساس والاستراتيجي ظل حبيس بعض الاختلالات مما أفقد السودان ريادته المبكرة في هذا المجال.
بدأت خدمات الاتصالات في السودان منذ العهد التركي المصري في القرن التاسع عشر ، بافتتاح اول مكاتب بريد عام ١٨٦٧ في سواكن ووادي حلفا ، ثم في دنقلا وبربر والخرطوم ، وفي عام 1877 في كركوك وكادوقلي والقضارف والأبيض والفاشر ، عبر البرق والمراسلات البريدية . ثم تطورت في العهد البريطاني بوضع خطوط الهاتف السلكي والتلغراف ونظام رسائل البريد .
وفي التسعينات ظهر الهاتف المحمول ، وتوسعت خدماته بشكل ملحوظ .

وكان قطاع الاتصالات محكم الأداء يقدم خدمات متميزة في وقت لم تعرف معظم دول العالم الثالث نظاماًِ محكماً مثله .
وقُدمت خدمات متطورة بمقاييس ذلك الزمان عبر الهاتف السلكي ومراسلات التلغراف وخطابات البريد التي كانت تنقل بسرعة ودقة داخل وخارج البلاد وتحويل الأموال عبر الحوالات البريدية .
قطاع الاتصالات السوداني أدى دوراً محورياً منذ بدايات تشكله في دعم التواصل الوطني والخدمات العامة والتعليم والاقتصاد وتسيير أجهزة الدولة ، وإدارة مرافقها المهمة كالسكة الحديدية وإدارة مشروع الجزيرة من خلال الهاتف السلكي .

وتولت إدارة هذا القطاع هيئة البوستة والتلغراف لتنتقل في عهد الاستقلال إلى هيئة البريد والبرق السودانية
ثم لتصبح مؤسسة ثم لتوضع تحت إشراف الهيئة القومية للإتصالات .
وفي خطوة تطور لافتة تم تأسيس سوداتل (الشركة الوطنية الكبرى) وفتح المجال لشركات أخرى مثل موبيتل وسوداني وMTN وكنار للاتصالات وغيرها حيث اقيمت شبكة ضخمة للهاتف السلكي غطت معظم أنحاء البلاد .

وفي التسعينيات ظهرت شركات الهاتف المحمول ، وتوسعت بشكل ملحوظ وصولاً إلى كونه اليوم أحد أهم أعمدة السيادة الرقمية للدولة .
. غير أن هذا التوسع الكمي لم يواكبه أداء نوعي وتقني وتشريعي متطور ، بل تراجع لاحقاً بصورة واضحة أبرز مظاهرها :
غياب السيادة الرقمية بسبب ضعف الأنظمة وضعف الرقابة على الشركات ، وتعدد الجهات المتدخلة التي تتجاذب القطاع من مالية وسيادية واستثمارية مما أضعف القرار المؤسسي .

عدم وجود بنية تحتية قومية رقمية مملوكة للدولة من سيرفرات ومراكز بيانات وطنية ، وظلت بيئة الأمن السيبراني والتشفير الوطني هشّة مما هدد الأمن القومي في ظل الاختراقات المتكررة .
ضعف الإطار القانوني والتنظيمي لغياب منظومة حديثة موحدة لإدارة الفضاء الرقمي .
إن إصلاح هذا القطاع الحيوي ليس ترفاً أو خدمة ، بل ضرورة وجودية تسبق أي نهضة .
لكن هذا الإصلاح يتطلب قرارات جادة وعزماً على إنفاذها وتشمل :

تهيئة البيئة العامة بما يجعلها مؤهلة لاستيعاب خطوات الإصلاح والتطوير في كل المجالات ، وبما يشجع دخول المستثمرين المحليين والأجانب ويمكن من تنفيذ المشروعات الكبيرة التي لا يمكن تنفيذها في بيئة اقتصادها مختنق بالقيود وتدار دولتها بنظم بالية . وكل ذلك لا يتأتى إلا بتحرير الإقتصاد تحريراً كاملاً وضبط أجهزة الدولة كلها بأنظمة رقمية شاملة وقد أولت السلطة السيادية هذا الأمر اقصى درجات الاهتمام فأنشأت وزارة كاملة للرقمنة .

تحرير سوق الاتصالات والخدمات الرقمية والاستثمار التقني والتكنولوجيا المالية .
رفع القيود التي تكبل تأسيس وتشغيل الشركات الناشئة .
إعادة هيكلة الهيئة القومية للاتصالات وتحويلها إلى جهة فنية مستقلة كلياً تتبع مجلساً سيادياً تقنياً لا سياسياً .
اعداد وسن منظومة التشريعات الرقمية الوطنية والأنظمة السيادية السيبرانية والبنية المؤسسية الحديثة التي توحد المرجعية الرقمية تحت سلطة الدولة وتحفظ السيادة الرقمية وتحمي الخصوصية والهوية والبيانات الوطنية من التغول الأجنبي أو الفوضى المحلية .
تحرير خدمات الإنترنت والنطاقات والمراكز الوطنية من الاحتكار والتوجيه السياسي .

توطين البنية التحتية الرقمية القومية ببناء مراكز بيانات وسيرفرات وشبكات مستقلة داخل السودان .
تحرير مجال تقديم الخدمات الرقمية لتشمل الشركات الوطنية الناشئة مع ضبط السوق وتكافؤ الفرص .
فرض الرقابة الشفافة على الشركات الكبرى .
توحيد المعايير الفنية والتجارية .
بناء نظام وطني للأمن السيبراني والتشفير مستقل عن الأنظمة الأجنبية ومربوط بالمركز الوطني للبيانات .
إلغاء تعدد الرسوم والتقاطعات الإدارية التي أعاقت الاستثمار المحلي ورفعت تكلفة الخدمة على المواطن .
إطلاق منظومة التشريع الرقمي الموحد بما يشمل قوانين الجرائم المعلوماتية والخصوصية والهوية الرقمية والتجارة الإلكترونية.

وغني عن القول أن دول العالم الأول والثاني – إذا تجاوزنا عن هذا التصنيف – كلها تعمل وفق الإقتصاد الحر ومضبوطة بأنظمة رقمية شاملة مما يجعل التعامل معها خارج هذين الاطارين صعباً جداً إن لم يكن مستحيلاً . وإذا تمعّنا في تجارب بعض الدول التي كانت قبل سنوات قليلة في منتهى التخلف أو دمرتها الحروب نجدها قد نهضت بسرعة فائقة بفضل تحرير اقتصاداتها ورقمنة أجهزة دولتها . فرواندا مثلاً تحولت من دولة خارجة من حرب أهلية إلى واحدة من أكثر الدول الإفريقية تقدماً في الحكومة الإلكترونية ، وذلك عبر ثلاث ركائز : التحرير الاقتصادي الكامل لجذب الاستثمارات التقنية، وبناء مراكز بيانات وطنية تربط كل المؤسسات الحكومية،

وسن تشريعات سيبرانية موحدة جعلت من الدولة مرجعية مطلقة في حماية الهوية الرقمية للمواطن . وتجربة إستونيا في أوروبا تقدم نموذجاً أكثر عمقاً ، حيث أصبحت خدماتها الرقمية الشاملة عنواناً لسيادة الدولة الحديثة ، من الهوية الرقمية حتى التصويت الإلكتروني ، ولم يتحقق ذلك إلا حين دمجت الدولة بين التحرير الاقتصادي المطلق والأنظمة الرقمية المتكاملة .
لن يكون هناك مجال للطموح نحو ريادة رقمية أو أمن سيبراني أو سوق اتصالات تنافسي منصف ما لم تُهيأ البيئة العامة بالكامل . عندها فقط ستتمكن الدولة السودانية من استعادة سيادتها الرقمية ، وتحويل قطاع الاتصالات من مجرد مرفق خدمي تابع ، إلى ذراع سيادي فاعل ومنتج .

إن قطاع الاتصالات السوداني ليس قطاعاً خدمياَ ثانوياً ، إنما هو شريان يمدّ الاقتصاد والتعليم والصحة والتجارة بالطاقة الرقمية اللازمة ، ويشكّل خط الدفاع الأول عن سيادة البلاد في زمن تتحكم فيه البيانات والمعلومات أكثر من السلاح .
إن الدولة التي لا تملك قرارها الرقمي ، ولا تتحكم في مسارات بياناتها ومفاتيح تشفيرها وسيرفراتها الوطنية ، هي دولة مكشوفة السيادة ، معرضة للابتزاز ، وفاقدة للاستقلال الحقيقي مهما ادّعت من سيادة سياسية أو عسكرية .

من هنا فإن قطاع الاتصالات في السودان يمثل مستقبل الدولة نفسها : هل نريد أن نبقى أسرى أنظمة قديمة وتقاطعات سياسية تجعلنا مجرد مستهلكين ، أم نريد أن نخطو لنصنع سيادتنا الرقمية بأيدينا ونحفظ مستقبلنا ؟ إن الإجابة لا تحتمل التأجيل ، لأن العالم لا ينتظر المترددين .

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى