محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..شراكة حكومية والقطاع الخاص : تساؤلات يثيرها لقاء الوزيرة وأصحاب العمل

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..شراكة حكومية والقطاع الخاص : تساؤلات يثيرها لقاء الوزيرة وأصحاب العمل
تساؤلات كثيرة يثيرها اللقاء الذي تم بين وزيرة الصناعة والتجارة الأستاذة محاسن يعقوب علي ورئيس تجمع أصحاب العمل وممثل الجهات المعنية بقطاع الوارد والصادر ، رجل الأعمال معاوية أبايزيد السيد .
ففي ظل ظرف اقتصادي غير مسبوق يعيشه السودان ، حيث تتشابك تحديات الركود ونقص النقد الأجنبي وارتفاع تكاليف التشغيل مع فرص كامنة في قطاعات الإنتاج والتجارة ، تبرز مجموعة من الأسئلة المحورية :
كيف يمكن تحويل اللقاءات بين الحكومة والقطاع الخاص من مجرّد مناسبات للتشاور إلى منصات حقيقية للتغيير الهيكلي؟
وهل يمكن أن تؤتي المعالجات الإجرائية الثمار المرجوة منها بدون إصلاح البيئة العامة في البلاد التي لا يمكن نجاح أي عمل بدونها وذلك بتحرير الاقتصاد كلياً تحريراً شاملاً وضبط أداء أجهزة الدولة برقمنة متكاملة ، بحيث تصبح كل خطوة إجرائية جزءاً من مشروع نهضة وطني مستدام.
الاجتماع كان مهماً وجاداً حيث ناقش الطرفان بعمق التحديات التي تواجه القطاع وسبل تجاوزها عبر حلول عملية قابلة للتنفيذ ، في خطوة تعكس أهمية الشراكة بين الحكومة والقطاع الخاص في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة .
أكدت الوزيرة خلال اللقاء التزام وزارتها بحل كافة المشكلات المطروحة وتبني سياسات داعمة للإنتاج المحلي والصادرات ، مشيرة إلى أن تسهيل بيئة الأعمال وتبسيط الإجراءات هو المدخل لتعزيز الميزان التجاري ودعم استقرار الاقتصاد الوطني .
وتطرّق النقاش إلى ملفات الواردات ، حيث جرى تأكيد ضرورة تسريع إجراءات التخليص الجمركي بحيث لا تتجاوز 72 ساعة من تاريخ تقديم المستندات ، ومراجعة رسوم التأخير المرهقة التي يفرضها وكلاء الشحن ، مع اقتراح تحديد رسم ثابت لا يتجاوز 20 دولاراً في اليوم ، إضافة إلى تقديم مقترحات لوقف الغرامات العالية التي تثقل كاهل المستوردين .
وفي ملف الصادرات اتفق الطرفان على تشجيع عمليات تستيف الصادر من المحطات والموانئ الجافة لتقليل زمن الشحن وخفض التكلفة ، وتيسير الإجراءات للمصدرين بما يسهم في تعزيز تنافسية الصادرات السودانية في الأسواق العالمية .
كما ناقش اللقاء مبادرة لتشجيع شراء وتصدير الذهب بالسعر العالمي ، مع تخصيص رصيده لتمويل استيراد السلع الاستراتيجية كالقمح والبترول من خلال بروتوكولات تعاون مع دول صديقة ، بما يخفف الضغط على النقد الأجنبي ويعزز الاحتياطيات .
هذه الخطوات ، على أهميتها تعكس جدية من الطرفين لإيجاد حلول لمشاكل التجارة الخارجية . وهي في مجملها جيدة لكنها لن تحقق أقصى أثرها إلا إذا أُصلحت البيئة العامة للاقتصاد عبر التحرير الشامل ورفع كل القيود على التجارة والاستثمار ، وربط ذلك برقمنة متكاملة للدولة تشمل الإجراءات الجمركية والتجارية والمصرفية ، مع تفعيل القوانين وضمان سيادة حكم القانون حيث لن يكون ميسوراً نجاح تنفيذها في ظل القيود التي تكبل الإقتصاد وتجعل الطرف الآخر الأجنبي متردداً متحفظاً بل محجما تماما فى التعامل مع السودان .
وكذلك فإن ما اتفق عليه من تيسير الإجراءات في تسريع التخليص وتستيف الصادرات من الموانيء الجافة لا يكون سلساً في ظل البيروقراطية العقيمة والأنظمة الورقية والدفترية البطيئة . بينما يتيح النظام الرقمي امكانية تنفيذ الإجراءات في ثوان بدل ثلاثة أيام التي توصل إليها الإجتماع . وهذا بالضبط ما توصلت إليه السلطة السيادية ورئاسة مجلس الوزراء مما جعلها تنشيء وزارة للرقمنة .
وإذا قارنا الوضع في السودان اليوم بتجارب عالمية ناجحة ، يتضح الفارق بجلاء ؛ ففي سنغافورة لم يكن تطوير الموانئ وحده كافياً لجعلها مركزاً تجارياً عالمياً، بل كان القرار الحاسم هو تحرير الاقتصاد كلياً وربطه بمنظومات رقمية متكاملة تسمح بإنجاز كل المعاملات في دقائق . ورواندا التي خرجت من حرب أهلية مدمرة ، صارت بيئة الأعمال فيها الأكثر جاذبية في إفريقيا بفضل إزالة الحواجز الإدارية واعتماد أنظمة رقمية تربط بين المستثمرين والجمارك والمصارف . أما جورجيا فقد نجحت في القضاء على معظم أشكال الفساد الصغير عبر تحرير الاقتصاد ورقمنة الخدمات الحكومية ، مما أعطى دفعة هائلة للصادرات والاستثمار.
إن السودان إذا أراد أن يجعل من مثل هذه اللقاءات نقطة انطلاق حقيقية ، فعليه أن يدمج بين التحرك الإجرائي الفوري في مجالات الصادرات والواردات ، وبين التحول الهيكلي الشامل للاقتصاد ، حتى تصبح الشراكات بين الحكومة والقطاع الخاص قادرة على إحداث تغيير مستدام لا رجعة فيه ، يمكّنه من المنافسة الفعلية في الأسواق الإقليمية والعالمية . وهنا تأتي الرسالة المباشرة
لصانع القرار: الفرصة الآن سانحة لوضع السودان على طريق النهضة الحقيقية ، فالتاريخ لا يرحم التردد ، والأسواق لا تنتظر ، والمستثمرون يبحثون عن بيئة واضحة القوانين ، منفتحة على العالم ومتسقة مع نظام الاقتصاد العالمي ، وسريعة في الإنجاز . ومن يملك الإرادة ، يملك المستقبل .