محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب:.. بهدوء و تدبر..السودان الأغنى في الموارد الأفقر في جذب الإستثمار !!

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب:.. بهدوء و تدبر..السودان الأغنى في الموارد الأفقر في جذب الإستثمار !!
لا يزال السودان بعيداً عن خارطة الاستثمار العالمية رغم ما يملكه من إمكانات طبيعية لا تكاد تتوفر مجتمعة في أي بلد آخر .
ذلك أن غياب البيئة الاستثمارية الجاذبة ، من حيث القوانين العادلة ، والبنية التحتية المتكاملة ، والحوكمة الرشيدة ، والرقمنة الشفافة ، والانضباط الإجرائي ، والإستقرار السياسي، قد جعل السودان في نظر المستثمرين بيئة عالية المخاطر ، قليلة الجدوى ، كثيرة التعقيد .
ولعل من المفارقات العجيبة أن السودان رغم كونه من أغنى دول العالم في الأرض والماء والموقع والموارد ، هو في الواقع من أفقرها في جذب الاستثمارات النوعية المنتجة ، لا لأن المستثمرين لا يرونه ، بل لأنهم لا يجدون فيه ما يشجعهم على المغامرة .
فالدولة السودانية لم تحرر اقتصادها من البيروقراطية القاتلة ، ولم توحّد أنظمتها تحت منصة رقمية شفافة ، ولم تبسط سلطتها القانونية على الأرض ، ولم توفر العدالة وسرعة الإجراءات ، ولم تضبط بواباتها الحدودية والجمركية .
لذلك فإن دولتنا لن تستطيع مهما رفعت من شعارات النهوض أن تجتذب استثماراًَ حقيقياً مستداماً.
الاستثمار ليس نشاطاً اقتصادياً فحسب ، بل هو شريان تتغذى به جميع مجالات الحياة ، ومحرك جوهري لا غنى عنه لأي نهضة شاملة . فلا صحة مستدامة دون استثمار في المستشفيات والصناعات الدوائية ، ولا تعليم متقدم دون استثمار في البنية التعليمية والبحث العلمي ، ولا زراعة ولا صناعة ولا طاقة ولا نقل ولا تكنولوجيا دون رؤوس أموال مغامرة وشراكات طويلة النفس تسهم في بناء المرافق وتطوير الموارد وتشغيل البشر .
وعبر التاريخ لم تنهض أمة إلا حين استوعبت معنى الاستثمار ووفرت له الشروط التي تُمكّنه من التمدد والازدهار . بل إن أكثر الدول تقدماً اليوم كانت إلى وقت قريب من الدول الفقيرة المتعثرة ، لكنها قررت أن تنفتح على العالم ، وتهيئ له بيئة نظيفة مرنة محفزة تستوعب كل طاقات الداخل والخارج وتطلقها للعمل المنتج .
والاستثمار ضرورة دائمة حتى للدول المتقدمة التي أدركت أن المحافظة على تقدمها ونموها رهنٌ بجذب رؤوس الأموال العالمية ، وفتح المجال للمستثمرين للمساهمة في بناء المستقبل وليس حكراً على الدول
النامية أو المتأخرة . فالولايات المتحدة وهي الاقتصاد الأكبر عالمياً ، لا تتوقف لحظة عن جذب الاستثمارات عبر حوافز ضريبية وتشريعات مرنة ومناخ تنافسي شديد الجاذبية ، وتسعى كل ولاية أمريكية لاستقطاب الشركات الكبرى عبر عروض خاصة .
وكذلك تفعل ألمانيا واليابان وكندا وسنغافورة .
فالدول الذكية تعلم أن الاستثمار ليس خياراً طارئاً بل ركيزة دائمة لتجديد الاقتصاد وتعزيز الابتكار وضمان النمو المستدام .
ويكفي أن نعلم أن حجم الاستثمار الأجنبي المباشر في بريطانيا وحدها يتجاوز 2 تريليون دولار رغم أنها من أقدم الدول الصناعية، لأنها تدرك أن السباق نحو المستقبل لا يتوقف .
إن السودان اليوم لا يملك ترف الانتظار ، وليس له من سبيل للنهوض إلا بإطلاق طاقات الاستثمار عبر تحرير شامل من الداخل وانفتاح ذكي على الخارج ، فالداخل مليء بالكفاءات والمغتربين ورجال الأعمال المحليين الذين ينتظرون الإشارة الجادة لينطلقوا ، والخارج مليء برؤوس الأموال الباحثة عن وجهات جديدة ، والكل اليوم ينظر إلى أفريقيا باعتبارها الفرصة القادمة ، فيجب أن نكون مستعدين لنكون في قلب هذه الفرصة .
ولذلك فإن السودان اليوم، إن أراد فعلاً لا قولاً أن ينهض ويجتذب الاستثمار ليستفيد من موارده الهائلة فإن عليه أن يتخذ خطوات شجاعة متزامنة تشمل :
جعل المستثمر يرى في الواقع بيئة عملية جاذبة بالفعل ، من أبرز ملامحها تلقائية تحويل الأموال وسهولة الإجراءات عبر نظام رقمي متكامل ، وفاعلية القوانين الحامية ، ويسر الاطلاع عليها والوصول إليها دون عوائق . وليس في إصدار كتيّب يحمل قانوناً لتشجيع الاستثمار، إذ إن ما يُكتب عادةً في قوانين تشجيع الاستثمار من عبارات كـ “يُسمح بتحويل الأرباح” هو في الواقع يُخيف المستثمر بدل أن يطمئنه ، خاصة إذا رأى أن الواقع يناقض النصوص . والمستثمر الذي تأتي به الصدفة إلى البلاد ليُطالع الواقع،
كثيراً ما يفر منها ويصدّ عنها ، أما الأصل فهو أنه لا يأتي أصلاً إن لم تسبقه الأخبار الإيجابية عن صلاح البيئة الاستثمارية ، سواء عبر الإعلام أو من تجارب سابقة ناجحة.
وضع ملف الاستثمار في قمة أولوياته ، لا بمجرد الترويج لموارده ، بل بتهيئة كل ما يجعل المستثمر يسعى إليه لا العكس . ويبدأ ذلك بتحرير الاقتصاد تحريراَ كاملاً من كل القيود المصطنعة ، ثم برقمنة الدولة بالكامل لتحريرها من الفساد والعشوائية ، وتوحيد الضرائب والرسوم وتبسيطها .
تكوين مفوضية عليا للاستثمار تتبع لرئاسة الوزراء، تكون المرجع الوحيد في الإجراءات والتصاريح ، وتُدار بعقلية مؤسسية احترافية تضمن المساواة والشفافية والسرعة.
نقل ملف الاستثمار من كونه ملفًا علائقياً أو أمنياً إلى كونه ملفاً اقتصادياً بحتاً قائماً على دراسات الجدوى وتكافؤ المصالح وسيادة القانون . فالمستثمر لا يأتي من أجل المجاملة ، ولا من أجل أيديولوجيا ، بل يأتي لأن لديه رأس مال يريد أن يُثمر في بيئة مأمونة عادلة . وكل
تأخير في إصلاح مناخ الاستثمار هو مزيد من إهدار الوقت والفرص، في حين أن الدول الأخرى لا تنتظر أحدًا.
إن الاستثمار هو قاطرة الحياة، وكل تأخير في تحريكه يعني أننا نقف في مؤخرة الركب بينما تمر أمامنا الأمم إلى الأمام، فهلا وعينا الدرس، وبدأنا من حيث يجب أن نبدأ؟





