مقالات

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..أزمة المياه العالمية… السودان بين مطرقة الاستهداف وسندان التسيُّب

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..أزمة المياه العالمية… السودان بين مطرقة الاستهداف وسندان التسيُّب

 

 

يتهدد السودان نصيب وافر من حرب المياه الطاحنة التي أصبحت واضحة المعالم . فرغم أن السودان يُعتبر من أغنى دول إفريقيا مائياً من حيث الموارد النظرية (نهر النيل ، المياه الجوفية ، الأمطار الموسمية) ، إلا أنه فعلياً أحد أكثر البلدان تعرضاً للخطر المائي .
أما الأخطر ، فهو أن السودان حتى الآن لا يمتلك رؤية استراتيجية لحماية أمنه المائي ، ولا آليات علمية لرصد الخطر مبكراً ، ولا منصات رقابية تتابع تسرّب أو تلوّث المياه الجوفية ، أو حتى استغلال البعض لما يخصه من حقوقٍ مائية .

وبينما تزداد موجات الهجرة والنزوح بسبب سوء الإدارة والتخطيط ، وعدم وجود سياسة مائية متكاملة تحفظ الحقوق وتمنع الهدر وتضمن الاستدامة . إضافة إلى الاعتماد الكامل على النيل دون استغلال فعّال للموارد الجوفية والمطرية . كذلك التلوث المتزايد للمياه الجوفية في المدن بسبب الصرف الصحي العشوائي ، وتلوث المياه السطحية في الريف نتيجة الاستخدام غير الرشيد . وبغياب الرقابة يتم استهلاك كميات مهولة من المياه دون تنظيم . وغير خفي الاستهداف الخارجي غير المعلن الذي يسعى لتجفيف البلاد من مقدراتها الطبيعية ضمن سياسة الضغط الناعم التي تمارسها بعض القوى إقليمياً أو عالمياً.
وخطر حرب المياه التي باتت واضحة الآن يبينها ما أجمع عليه الخبراء اليوم على أن الحروب القادمة لن تُخاض فقط من أجل النفط أو الغاز، بل من أجل الماء ، هذا المورد الذي يُمثل عصب الحياة كلها .

فمنظمة الأمم المتحدة تُحذّر من أن قرابة نصف سكان العالم قد يواجهون شُحّاً مائياً بحلول عام 2030 .
ومع تغيّر المناخ ، والتزايد السكاني ، والتلوث ، والنزاعات ، باتت أزمة المياه تحدياً عالمياً مُركّباً لا يهدد التنمية فقط، بل يُهدد الأمن والاستقرار في دولٍ كثيرة، خاصة الدول الضعيفة سياسياً وهشّة الإدارة كحال السودان .
ويشهد العالم حاليًا توترات مائية متصاعدة، خاصة في مناطق الأنهار العابرة للحدود مثل حوض النيل ودجلة والفرات ونهر الأردن ونهر الميكونغ في آسيا . بعض هذه

الأنهار أصبح مسرحاً لـحروب باردة بين الدول المتشاطئة ، حيث تستخدم الدول العليا المياه كوسيلة ضغط وهيمنة . وظهرت مفاهيم مثل “الابتزاز المائي” ، و”الأمن المائي”، و”دبلوماسية المياه“، وكلها تعكس تعقيد الصراع القادم .
الأمر لم يعد نظرياً ، فالتوتر بين مصر وإثيوبيا بسبب سد النهضة بلغ مستويات خطرة ، وتنازعت دول كتركيا والعراق حول مياه دجلة والفرات ، وتواجه الهند وبنغلاديش خلافات حول نهر الجانج .
أما في إفريقيا ، فإن معاناة الشعوب من الجفاف والتصحر والتلوّث تتفاقم عاماً بعد عام .

وتستدعي مواجهة هذا الخطر الكبير خطوات عملية حازمة وجادة من إدارة الدولة السودانية تشمل :
أن تعلن الدولة أن الأمن المائي قضية سيادية قومية لا تقبل المساومة .
أن يتبنى السودان على الصعيد الخارجي سياسة مائية حازمة ، تبدأ بمراجعة حقوقه المائية لتحقيق العدالة ، وإشراك السودان في كل مفاوضات سد النهضة على أساس الحقوق لا المجاملة ، وبناء تحالفات مع دول تتقاطع مصالحها مع السودان في الأمن المائي .
وأن يتم تأسيس مفوضية عليا للمياه تتبع لرئاسة الوزراء مباشرة ، وتضم خبراء واستشاريين وتكنوقراط لا يخضعون للولاءات السياسية .

التحول إلى سياسات إدارة المياه الذكية من خلال إنشاء نُظم متكاملة لحصاد المياه في المناطق المطرية .
حصر وتصنيف كل المخزون الجوفي على أسس علمية ، ووضع قوانين تمنع استنزافه أو تصديره .
تعميم نظام الري الحديث بدلًا من الغمر .
بناء سدود وخزانات صغيرة تحت الأرض .
معالجة التلوث فوراً وبطرق ممنهجة ، وفرض الرقابة الصحية البيئية على الشركات التي تُلوّث ماء الأنهار والمياه الجوفية في المدن .
إنشاء وحدات صرف صحي جافة في الريف ، وتنظيم شبكات الصرف الصحي وتوسيعها ، مع مراقبة آبار المياه وتحليلها دورياً .

رفع وعي المواطنين بقيمة الماء بإدخال مفاهيم ترشيد المياه في المناهج التعليمية ، وتنظيم حملات توعوية مستمرة .
توفير تطبيقات رقمية للإبلاغ عن الهدر والتجاوزات .
وكل هذه الإصلاحات المرجوة لا يمكن تحقيقها في بيئة غير صالحة تقودها بيروقراطية عاجزة واقتصاد مشوه مقيد غير قادر على تحقيق النهضة ومواكبة العصر والإنسجام مع منظومة الإقتصاد العالمي .
فلا بد أن تبدأ الدولة فوراً في إصلاح البيئة العامة وتهيئتها ليكون ممكناً تحقيق الإصلاحات المطلوبة وإنزالها على أرض الواقع والذي لن يكون ممكناً ولا مثمراً

إلا في بيئة وطنية صالحة محررة الإقتصاد بالكامل ومنضبطة بنظام رقمي شامل، تُمكِّن من حُسن الإدارة، وتُوفّر الشفافية، وتُغلق منافذ الفساد والهدر، وتُتيح حوكمة الاستخدام، وتُيسِّر التخطيط والتنفيذ والتقييم على أسس علمية ذكية. فبدون بيئة مُحرّرة ومرقمنة ، لا يمكن لأي سياسة أو مشروع مهما بلغ نُبله أن يبلغ غايته أو يُثمر ثماره المرجوّة .
إنّ الإصلاح المائي لا ينفصل عن الإصلاح المؤسسي والإداري ، بل يتغذى عليه ويعتمد في نجاحه عليه كلياً .
الماء لم يعد شأناً بيئياً فحسب ، بل تحوّل إلى قضية حياة أو موت ، أمن أو انهيار ، وجود أو زوال .

والسودان إذا لم يبادر فوراً إلى بناء نظام حماية مائي ذكي وعادل ومستدام ، فإن طوفان الأزمات القادمة سيجرف ما تبقى من فرص نهضته.
لا نريد أن ننتظر حتى يُفرض علينا الحل من الخارج ، أو حتى تُباع مياهنا بأبخس الأثمان ، أو نستيقظ ذات يوم لنكتشف أننا في قلب الصحراء بلا نقطة ماء واحدة.
﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [الأنبياء: 30]

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى