مقالات

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر.. دعمُ المشروعاتِ الصغيرةِ: ظاهرٌ براقٌ وحقيقةٌ صادمةٌ

 محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر.. دعمُ المشروعاتِ الصغيرةِ: ظاهرٌ براقٌ وحقيقةٌ صادمةٌ

 

 

 

تصطدمُ الدعوةُ إلى تدخّلِ الدولةِ السودانيةِ لدعمِ المشروعاتِ الصغيرةِ والمتوسطةِ بمعوّقاتٍ تجعلُ تنفيذَ هذا الدعمِ إعادةَ إنتاجٍ للفشلِ المزمنِ الذي لازمَ تجاربَ الدعمِ الحكوميِّ السابقةِ، حيثُ يُهدرُ المالُ دونَ أثرٍ، وتُضربُ العدالةُ الاقتصاديّةُ، وتحلُّ الفوضى محلَّ الكفاءةِ.
يدعو البعضُ إلى تدخّلِ الدولةِ من أجلِ توفيرِ مدخلاتِ الإنتاجِ والتمويلِ والتأمينِ والتخزينِ والتسويقِ وخدماتِ الاستشعارِ عن بُعدٍ ، باعتبارِ أنَّ ذلك هو السبيلُ الوحيدُ للحدِّ من الفقرِ والبطالةِ وتوطينِ التكنولوجيا . ولئن بدتْ هذه الدعوةُ وجيهةً في ظاهرِها، إلا أنّها تصطدمُ بواقعٍ ماثلٍ لا يمكنُ تجاهلُه فالدولةُ السودانيةُ اليومَ ليستْ في وضعٍ يسمحُ لها بتنفيذِ مثلِ هذه السياساتِ، مهما حَسُنتِ النوايا وتعاظمتِ التطلّعاتُ.

فالمواردُ وافرةٌ ومتنوّعةٌ ، لكنّها غيرُ مُستثمرةٍ ، وتُركتْ لعشوائيّةِ الاستغلالِ وضعفِ التخطيطِ ، بينما تعاني المؤسّساتُ من ضعفٍ شديدٍ، ويستشري الفسادُ بلا رادعٍ ، وتغيبُ الرقابةُ الرقميّةُ ، وتنهارُ نظمُ الحوكمةِ، ويبقى الاقتصادُ مُكبّلًا ومُقيّدًا، في ظلِّ بيئةٍ عامّةٍ مُشوّهةٍ ومُختنقةٍ.
والدعوةُ لدعمِ المشروعاتِ الصغيرةِ والمتوسطةِ ليست خاطئةً في أصلِها، إنّما هي صحيحةٌ من حيثُ المبدأُ الاقتصاديُّ، إذ لا خلافَ على أنّ هذه المشروعاتِ تُشكّلُ رافعةً حقيقيّةً للتنميةِ، ومصدراً مهمّاً للتشغيلِ ونقلِ التكنولوجيا.

 

وتكتسبُ الصناعاتُ الصغيرةُ أهمّيّةً كبرى في دفعِ عجلةِ النهضةِ الصناعيّةِ، إذ تسهمُ في تحويلِ الموادِّ الخامِّ إلى منتجاتٍ ذاتِ قيمةٍ مضافةٍ محليّاً.
وتُظهرُ التجاربُ الدوليّةُ أنَّ هذه الصناعاتِ قادرةٌ على إحداثِ قفزاتٍ اقتصاديّةٍ معتبرةٍ؛ ففي الهندِ تمثّلُ المشروعاتُ الصغيرةُ والمتوسطةُ أكثرَ من أربعينَ بالمئةِ من الصادراتِ، وتوفّرُ فرصَ عملٍ للملايينِ . وفي إثيوبيا ركّزت الدولةُ على الصناعاتِ الصغيرةِ المرتبطةِ بالزراعةِ، مثلَ الجلودِ، والألبانِ، والعسلِ، والنسيجِ، بينما انطلقتْ فيتنامَ من الصناعاتِ الريفيّةِ لتشكّلَ لاحقًا نواةً لاقتصادٍ تصديريٍّ قويٍّ.

كما أنّ إدماجَ التكنولوجيا والابتكارِ بات شرطاً لنجاحِ هذه الصناعاتِ، من خلالِ تبنّي مشروعاتِ الزراعةِ الدقيقةِ والطباعةِ ثلاثيّةِ الأبعادِ وصناعةِ تطبيقاتِ الهاتفِ المحمولِ التي تُقدّمُ خدماتٍ لوجستيّةً وتسويقيّةً في المناطقِ الريفيّةِ والأطرافِ .
لكنّ الاختلافَ الجوهريَّ لا يكمنُ في أصلِ الدعوةِ، بل في الوسائلِ، وفي توقيتِ التدخّلِ وشكلِه، وفي البيئةِ التي يجري فيها . فوفقاً للمعاييرِ العلميّةِ الحديثةِ ، لا ينبغي للدولةِ أنْ تلعبَ دورَ المموّلِ المباشرِ، بل ينبغي أنْ تؤدّيَ دورَ المحرّرِ والمُمكّنِ والمحفّزِ، من خلالِ إصلاحِ البيئةِ الكليّةِ وتوفيرِ المناخِ الملائمِ لنموِّ قطاعٍ خاصٍ نشطٍ وفعّالٍ.

ويُعدُّ إصلاحُ الإطارِ القانونيِّ والتنظيميِّ للمشروعاتِ الصغيرةِ من أبرزِ مقوّماتِ النجاحِ، وذلك عبرَ تبسيطِ إجراءاتِ التسجيلِ والترخيصِ، وضمانِ الحمايةِ من الضرائبِ التعسّفيّةِ ، والحدِّ من البيروقراطيّةِ المعطّلةِ بما يوفّرُ بيئةً آمنةً وجاذبةً لأنشطةِ الإنتاجِ المحليِّ .
ولا يكونُ دعمُ المشروعاتِ الصغيرةِ مجدياً إلا إذا تمّ في بيئةٍ صحيحةٍ ، تقومُ على مقوّماتٍ أساسيّةٍ في مقدّمتِها: تحريرُ الاقتصادِ تحريراً شاملاً في مجالاتِ التجارةِ والاستثمارِ وسعرِ صرفِ العملاتِ والنظمِ الضريبيّةِ، وضبطُ أداءِ الدولةِ عبرَ نظامٍ رقميٍّ متكاملٍ يشملُ كلَّ العمليّاتِ الحكوميّةِ، وإصلاحُ منظوماتِ العدالةِ والحَوْكمةِ، وإطلاقُ منصّاتٍ رقميّةٍ شفّافةٍ تُمكّنُ من تسجيلِ وتتبعِ المشروعاتِ ومراقبةِ أدائها بذكاءٍ .

وبعدَ تهيئةِ هذه البيئةِ المناسبةِ ، لا ينبغي أنْ تتّجهَ الدولةُ إلى تقديمِ الدعمِ المباشرِ ، إنما عليها أنْ تُمكّنَ هذه المشروعاتِ من الانطلاقِ عبرَ أدواتِ دعمٍ ذكيّةٍ، مثلَ :
توفيرِ الضماناتِ البنكيّةِ بدلاًِ من المنحِ ، وتشجيعِ الشركاتِ الخاصّةِ لتقديمِ الخدماتِ الزراعيّةِ بأسعارٍ تنافسيّةٍ، وتحفيزِ مشاريعِ تحليلِ البياناتِ والاستشعارِ بالشراكةِ مع الشركاتِ التكنولوجيّةِ، إضافةً إلى تطويرِ المنصّاتِ الإلكترونيّةِ للتسويق والخدماتِ اللوجستيّةِ، بما يربطُ المنتجَ بالمستهلكِ مباشرةً دونَ حلقاتِ فسادٍ أو استغلالٍ.
بهذا يُصبحَ قطاعُ الصناعاتِ الصغيرةِ جزءًا أصيلًا من اقتصادٍ عصريٍّ، حرٍّ، ذكيٍّ، منتجٍ، ومتينٍ.

وتبرزُ في السودانَ نماذجُ واعدةٌ لمشروعاتٍ صغيرةٍ أثبتتْ نجاحَها في مجالاتٍ متعدّدةٍ ، مثلَ تحويلِ الجلودِ إلى منتجاتٍ نهائيّةٍ ، واستخلاصِ الزيوتِ الطبيعيّةِ من الحبوبِ الزيتيّةِ ، وتعبئةِ وتغليفِ التمورِ ، وتجفيفِ الأعشابِ الطبيّةِ ، وتصنيعِ الصابونِ ومنتجاتِ التجميلِ من مكوّناتٍ محليّة .
وتمتدُّ هذه الأنشطةُ على امتدادِ الولاياتِ بحسبِ ما يتوافرُ فيها من مواردٍ وإمكاناتٍ، بما يعكسُ تنوّعَ السودانِ وغِنى بيئتِه، ويؤكّدُ أنَّ المشروعاتِ الصغيرةَ قادرةٌ على إحداثِ أثرٍ ملموسٍ متى وُضعتْ في بيئةٍ مواتيةٍ.

إنَّ الدعوةَ إلى تدخّلِ الدولةِ لدعمِ المشروعاتِ الصغيرةِ والمتوسطةِ تظلُّ دعوةً قاصرةً ما لم تُبنَ على أُسسٍ اقتصاديّةٍ صحيحةٍ، وفي بيئةٍ محرّرةٍ إقتصادياً ورقميّةٍ تضمنُ الكفاءةَ ، وتمنعُ التسرّبَ ، وتُفعّلُ قوى السوقِ.
ولا يمكنُ الحديثُ عن دعمِ هذه المشروعاتِ بمعزلٍ عن إدراكِ دورِها المحوريِّ في دفعِ عجلةِ التنميةِ ، لا سيّما في بلدٍ كالسودانِ، يمتلكُ قاعدةً زراعيّةً وثرواتٍ طبيعيّةً ضخمةً، إذ إنَّ تحويلَ هذه المواردِ إلى منتجاتٍ مصنّعةٍ محلّيًا عبرَ مشروعاتٍ صغيرةٍ متطوّرةٍ ، يرفع قيمة هذه المنتجات ويفتحُ البابَ أمام التشغيلِ والاكتفاءِ الذاتيِّ والصادراتِ النوعيّةِ.

  1. فنهضةُ السودانِ لن تُصنعَ بإغراقِ السوقِ بدعمٍ حكوميٍّ هشٍّ ينفدُ قبل أنْ يصلَ، بل تُصنعُ بإطلاقِ الطاقاتِ الكامنةِ في هذا الشعبِ، من خلالِ تحريرٍ شاملٍ للإقتصاد يقودُه، ورقمنةٍ ذكيّةٍ تعيدُ ترتيبَ بنيةِ الدولةِ، وتُحطّمُ البيروقراطيّةَ، وتكسرُ الجمودَ، وتفتحُ أبوابَ المستقبلِ.

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى