محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب:.. بهدوء و تدبر..الذكاء الاصطناعي عملاق يقود العصر وتخلف سوداني عن المواكبة !!

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب:.. بهدوء و تدبر..الذكاء الاصطناعي عملاق يقود العصر وتخلف سوداني عن المواكبة !!
لم يعد من المناسب أن يقف السودان موقف المتفرج أو المتابع بسلبية وبطء لأخطر ما أخترعه العقل البشري وهو الذكاء الاصطناعي الذي لم يعد ترفاً تقنياً أو رفاهية معرفية في زمننا الراهن، بل أصبح واقعاً يفرض نفسه بقوة، ويعيد تشكيل خرائط الاقتصاد العالمي، ويهزّ ثوابت سوق العمل، ويفتح أبواباً جديدة لم تكن تُطرق من قبل.
إنه التحول الأعمق منذ الثورة الصناعية، لكنه هذه المرة يسير بسرعة الضوء، ويطال كل قطاع من قطاعات الحياة
إننا يجب أن يكون لدينا قلقٌ ذاتي من اتساع الفجوة بيننا وبين العالم في هذا المجال، بما قد يجعل من الذكاء الاصطناعي وسيلة جديدة لتعميق التفاوت الاقتصادي والتنموي بيننا وبين العالم .
ولكي يلحق السودان بركب الحضارة المتسارع هذا ويستطيع أن يواكب التطور الذي يجري في العالم والذي أحدثته ثورة الذكاء الإصطناعي يلزمه حتماِ أن تكون البيئة العامة فيه مهيأة ومؤهلة لاستيعاب هذا التطور والتي لا تتحقق في ظل اقتصاد تكبله القيود ودولة
متخلفة الأداء ما زالت تعمل يدوياً وتدون على الدفاتر والورق . وهذا الانطلاق والتحوّل لا يمكن أن يتأتى في بيئة ساكنة اقتصادياً، أو متخلفة رقمياً كما في السودان وفي غيره من كثير من دول العالم الثالث ، حيث يكون شرطاً لازماً تحرير الاقتصاد تحريراً كاملاً ووضع البلاد كلها تحت نظام رقمي متكامل كمدخلين أساسيين لا غنى لأحدهما عن الآخر. فالذكاء الاصطناعي يحتاج بيئة مرنة متحركة، ومؤسسات مؤتمتة، ونظاماً اقتصادياً حراً يدعم الابتكار ويمنح المشاريع الذكية فرصة النمو.
الحديث عن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد استعراض للمخترعات، بل تأمل في مستقبل يتحول فيه دور الإنسان نفسه في وظائفه ومهاراته وأدواره.
في سوق العمل نلمس أثر الذكاء الاصطناعي في كل زاوية ، حيث تتراجع أهمية بعض الوظائف التقليدية لتحل محلها خوارزميات دقيقة وأنظمة مؤتمتة وروبوتات تتقن ما كانت يحتاج لأيادٍ بشرية في السابق . ومع هذا التراجع الظاهري في الوظائف تظهر في المقابل وظائف
جديدة تتطلب عقلاً ناقداً ومهارات إبداعية وتحليلاً عميقاً للبيانات، وقدرة على التعامل مع التقنيات المتقدمة، وهو ما يُغيّر طبيعة الوظيفة نفسها لا مجرد شكلها . الموظف المعاصر لم يعد مجرد منفذ تعليمات ، إنما أصبح مشرفاً على أداء الذكاء الاصطناعي ، موجّهاً له ومراقباً لنتائجه.
تتفاوت حدة التحولات بحسب القطاعات . في المجال الصناعي تدير الروبوتات وخطوط الإنتاج الذكية كثيراً من مراحل التصنيع بكفاءة تقلّل الأخطاء وتوفّر التكاليف ، لكنها تُقصي العديد من الوظائف اليدوية .
أما في القطاع المالي فقد أصبحت الخوارزميات أدوات تحليل لا غنى عنها في كشف الاحتيال واتخاذ قرارات استثمارية . وفي الصحة والتعليم تسهم المنصات الذكية في التشخيص الطبي والتعليم الإلكتروني ، وتزيد من كفاءة الأداء وتقلل من الهدر الزمني والمادي.
ورغم الفرص الهائلة التي يتيحها الذكاء الاصطناعي ينبغي في القرارات المصيرية الاستعانة به بذكاء، لاتخاذ القرار بإشراف ووعي بشري كامل. فالاعتماد المفرط على الأنظمة الذكية دون رقابة بشرية قد يؤدي إلى قرارات خاطئة أو عواقب غير محسوبة إذا تُركت الخوارزميات تتخذ قراراتها دون إشراف مدرك.
ولذلك لم يعد ممكناً أن نقف موقف المتفرّج، فالتكيّف مع الذكاء الاصطناعي ضرورة لا ترف. ولا بد أن يُعاد تأهيل القوى العاملة لا لتتعلم البرمجة فقط ، بل لتتعلم كيف تفكر وتنتقد وتتكيف وتضيف قيمة لا تستطيع الآلة وحدها إضافتها .
نحن بحاجة إلى مهارات تتجاوز المهارة التقنية، إلى وعيٍ بالتغير، وانخراطٍ في مسارات التعلّم المستمر، وإدراك بأن الوظيفة لم تعد مجرد أداء إنما أصبحت إبداعاً وتفاعلاً .
ولا يمكن إغفال الدور المحوري للشركات الناشئة في هذه اللحظة التاريخية . فبينما كانت الموارد سابقاً تصنع الفوارق بين الكبار والصغار ، أصبح الذكاء الاصطناعي أداة تمكينية عظيمة لمن يمتلك الفكرة والبرمجة .
نرى اليوم تطبيقات ذكية صغيرة تنافس شركات عملاقة لا بالمال، إنما بالبصيرة والخوارزميات. والواجب أن تُدعم هذه المشاريع من خلال بيئة حاضنة تشريعية وتمويلية، لا تقف عائقاً أمام الحالمين، إنما تمد لهم جسور الانطلاق.
إن مستقبلنا مع الذكاء الاصطناعي لا يجب أن يكون معركة صفرية بين الإنسان والآلة، بل شراكة ذكية يحسن الإنسان فيها استخدام هذه الأدوات لرفع كفاءته وتوسيع أثره. والعبرة ليست فقط بالتقنية، بل بمدى جاهزيتنا نحن لها، وانفتاحنا على التعلم، وجرأتنا في الإصلاح، وقدرتنا على بناء منظومة عمل مرنة تتقدم مع المتقدمين لا خلفهم.
فلنتهيأ للغد، لا بالخوف من الذكاء الاصطناعي، بل بالثقة في الإنسان حين يتحرر ويفكر ويتعلم ويبدع.
والذكاء الحقيقي ليس في الأجهزة، بل في العقول التي تُحسن تسخيرها لما فيه نفع الناس وتقدُّم الأمم.