محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..كمثل العنكبوت .. بيوت مفككة وأسر يقتل بعضهم بعضاً

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..كمثل العنكبوت .. بيوت مفككة وأسر يقتل بعضهم بعضاً
نموذج مفزع من التفكك الأسري والانهيار القيمي يمثله بيت وأسرة العنكبوت . ويلفت القرآن الكريم نظرنا بقوة وبحكمة بليغة ان لا نعتمد على غير الله وأن لا تكون بيوتنا وأسرنا واهنة مفككة كبيت العنكبوت وذلك كله في السياق القرآني البديع في آية واحدة .
ولم يكن عبثاً أن يضرب القرآن الكريم مثلاً لمن اتخذوا من دون الله أولياء ببيت العنكبوت. فهذا المثل القرآني العجيب لا يُجسّد ضعف الاعتماد على غير الله فقط، بل ينبه بقوة الى ضرورة بناء الأسرة على قواعد الإيمان ويكشف أيضاً عن حقائق علمية مذهلة، لم يُدركها العلم الحديث إلا بعد قرون طويلة من نزول القرآن. قال تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾.
وللأسف اصبح (بيت العنكبوت) واسع الإنتشار في المعمورة لا سيما في الدول التي لا يحكم مجتمعاتها دين وقيم تحمى الأسرة من التفكك والانهيار . واستشرت كذلك في البلدان الإسلامية وفي بلادنا ضمن الأسر التي أهملت قواعد الدين المرسومة لبناء الأسرة القائمة على المودة والرحمة والتكافل .
تأمل هذا التعبير الفريد: “اتخذت” بصيغة المؤنث، إشارة دقيقة إلى أن أنثى العنكبوت هي من تبني البيت، وهو ما أثبته العلم الحديث بدقة، حيث أكدت دراسات منشورة في Journal of Arachnology أن بناء الشبكة تقوم به الأنثى ، بينما الذكر لا يملك القدرة البيولوجية على بنائها.
والمعنى أعمق من ذلك: فهذه الإشارة القرآنية لكون الأنثى هي من “اتخذت البيت” توحي تربوياً بأن الأنثى البشرية أيضاً هي محور بناء البيت الأسري، وأن دورها في صناعة السكن والاستقرار جوهري، لكن بشرط أن يكون هذا البناء على نور من الوحي، وبهديٍ من الله، وإلا تحول البيت إلى صراع مادي ومعنوي، وانهارت أركانه رغم وجود الجدران.
لكن الإعجاز لا يقف عند هذه النقطة، بل يمتد إلى طبيعة البيت ذاته، وسلوك ساكنيه . فالأنثى في كثير من انواع العناكب تقتل الذكر بعد التلقيح، كما في الأرملة الحمراء، وفي أنواع أخرى يموت الذكر تلقائياً بسبب ضغط فسيولوجي ناتج عن التزاوج. والأدهى من ذلك، أن صغار العنكبوت في بعض الأنواع تأكل أمها بعد الولادة، كما هو موثق في أبحاث منشورة، في سلوك يُعرف علمياً بـ”افتراس الأم”. بل في بعض الحالات تلتهم الأم أولادها إذا شعرت بالخطر أو قلة الغذاء.
ومن عمق هذا المشهد يتجلى أن الله تعالى لم يقل “بيت العنكبوت” عن نوع واحد فقط، بل أطلقه مجملا ليشمل جميع فصائل العناكب، فكل منها يمثل نموذجاً من الانحراف السلوكي الذي يُماثل ما قد يصيب الأسر والمجتمعات التي تبتعد عن التوحيد. فهناك عنكبوت تقتل زوجها، وأخرى تأكله، وأبناء يقتلون أمهم، وأمهات يفتِرسن أبناءهن، وذكور تموت أثناء التزاوج… وهكذا في تشابك سلوكي يعكس كل صور التفكك، حتى كأن هذا المثل القرآني العظيم يرمز إلى كل أشكال الأسر والمجتمعات المنحرفة في صورها المتعددة، مهما اختلفت مظاهرها الخارجية.
وهكذا نجد أنفسنا أمام أنماط من السلوك تقوم على العنف والانتحار والتفكك، لا على الرحمة والرعاية : زوجات يقتلن أزواجهن وأزواج يقتلون زوجاتهم وامهات وآباء يقتلون أولادهم وأولاد وبنات يقتلون امهاتهم وآباءهم وإخوانهم وأخواتهم .
هذه الصورة المفزعة مستشرية في دول الغرب إلا أنها للأسف بدأت بالفعل تنتشر في بلادنا . ففي هذا الشهر وحده قتل شاب في أم درمان أمه طعنا بالسكين واحرق جثتها وقتل شاب شقيقه ، وقتل زوج زوجته ، وقتل ابن بنته ، وقتل أخ أخته . وهذا يؤكد أن بيت العنكبوت تجسيد دقيق للأسرة المنحرفة عن نور الوحي، التي تفقد الرحمة والسكينة وتتحول إلى مفرخة صراعات داخلية مدمرة.
بيت العنكبوت قد يبدو في ظاهره منتظماً هندسياً، لكنه من حيث الجوهر بيت هشّ متنافر، لا يقوم على المودة ولا يأوي إليه أحد طلباً للأمن.
ورغم أن خيوط العنكبوت تُعد من أقوى الألياف الطبيعية المعروفة، بل تفوق الفولاذ من حيث القوة نسبةً إلى الوزن، فإن البيت الذي يُبنى بها هو أضعف بيت من حيث المغزى والوظيفة. وهنا تتجلى الدقة المعجزة: لم يقل الله تعالى “أوهن الخيوط”، بل قال “أوهن البيوت”، لأن الوهن المقصود لا يتعلق بمادة البناء المجردة، بل بطبيعة البيت “كمسكن” و”كملاذ”. فالبيت لا يقي من حر ولا برد، ولا يمنح دفئاً ولا ستراً، ولا يحمي ساكنيه، بل هو شبكة مفضوحة خاوية، تشبه تماماً النظم والأفكار والأسر التي تفتقد السكينة وإن زخرفت ظاهرها.
وقد يُقال: ألا تحتمي العناكب في زوايا معزولة؟ أليس بيتها منيعا ضد الحرارة والرياح؟ والإجابة أن الخيط نفسه، رغم قوته النوعية، ينقطع بسهولة عند أدنى لمس أو اهتزاز. فهو قوي فقط في ظروف مثالية معزولة، لكنه بالغ الضعف عملياً، بل إن شبكته لا تُغني شيئاً عند الحاجة إلى حماية حقيقية. لذا فإن تعبير “أوهن البيوت” هو أصدق توصيف لمجمل النتيجة: خيوط قوية ظاهرياً، لكنه بيت لا يُغني، ولا يُؤوي، ولا يُحصّن، ولا يُسكن.
وتزداد هذه الدقة القرآنية عمقاً حين نقرأ الخاتمة المحكمة لهذا التصوير البديع، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾. فليس كل من يقرأ هذه الأمثال يدرك مغزاها ومراميها بل فقط اولئك الذين آتاهم الله العلم والعقل والوعي.
إن هذا التمييز القرآني بين مجرد القراءة والتعقل، يبرز البعد التربوي العميق في ضرب الأمثال، فهي ليست صوراً للتسلية، بل مفاتيح لفهم أعمق لمعاني التوحيد، وأخطار الانحراف، ونتائجه .
ولعل من أبرز وجوه هذا المثل في عصرنا أن كثيراً من النظم الأيديولوجية والمشروعات السياسية والاقتصادية في العالم اليوم، بُنيت على شعارات براقة وقواعد ظاهرها متين، لكنها تهاوت بسرعة عند أول اهتزاز. فكم من دولة اتخذت من القوة والمال والدعاية أولياء من دون الله، ثم ما لبثت أن انهارت قيمها، وتمزقت نُظمها، لأنها لم تتكئ على توحيد أو عدل أو رحمة.
كما أن المجتمعات التي تفقد روابطها الإيمانية والأسرية، تتحول بمرور الوقت إلى ما يشبه بيت العنكبوت: متشابك ظاهرياً لكنه خاو من الداخل، تنخره الأنانية، ويأكله التفكك، ويقضي عليه الجفاف الروحي.
والمعنى العميق لهذا المثل أن كل بناء لا يقوم على التوحيد والعدل والرحمة هو بيت عنكبوت، مهما بدا من الخارج محكماً. وأن كل اعتماد على غير الله، وإن زيّن بالدعاية أو الزخرفة أو المنطق العقيم، فهو وهن مصيره لا محالة ان يتبدد.
لذلك إذا رأيت بناءاً هائلاً يُقام في غياب الرحمة والعدل والحق، فتذكر أن الله تعالى قال: ﴿وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ﴾. وتدبّر أن كل بيت لا تُربط أركانه بالإيمان والتقوى، ولو كان من ذهب، فهو إلى الزوال أقرب منه إلى الدوام.
تلك الأمثال العظيمة سيقت لتنوير العقول، وتثبيت القلوب على معالم الهدى، وإقامة الحجة على من يستبدل الوهن بالمناعة، والشكليات بالجوهر. ولذلك ختم الله تعالى المثل بحكمته البالغة: “وما يعقلها إلا العالمون”.
فهل نحن اليوم من العالمين الذين يعقلون الأمثال، ويُبصرون السنن، ويُقيمون بيوتهم ومجتمعاتهم على نور الوحي وصدق الاعتماد على الله؟
محمد عثمان الشيخ النبوي