محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..السهر القاتل… حين ينقلب الليل والنهار

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..السهر القاتل… حين ينقلب الليل والنهار
انقلبت معادلة حياتنا فأصبحت نوم في وقت الصحوة، وسهر في وقت الغفوة وصار السهر حتى الفجر ثم النوم نهاراً، أو مواصلة العمل دون انقطاع حتى الانهيار، سِمة غالبة في حياة كثير من شبابنا وأسرنا ونسائنا ورجالنا .
تحوّل الليل من سَكَنٍ إلى صخب، والنهار من سعيٍ إلى سُبات، حتى اختلت الفطرة، واضطربت البيوت، وتآكلت صحة الأجساد، وبهتت العلاقات الأسرية .
ولم يعد هذا النمط استثناءاً، بل صار عادة يومية يُمارَس بلا وعي، كأنما هو جزء لا يُفارق روح العصر.
لكن الحقيقة أن هذا الانقلاب اليومي ليس من طبيعة الإنسان، ولا من فطرته التي خلقه الله عليها وجعل ما يلائمها هو السعي بالنهار والسكن والنوم بالليل .
وتأمل بعمق قوله تعالى :
(هُوَ الَّذِيْ جَعَلَ لَكُمُ الَّليْلَ لِتَسْكُنُوْا فِيْهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ۗاِنَّ فِيْ ذٰلِكَ لَاٰيٰتٍ لِّقَوْمٍ يَّسْمَعُوْنَ )
(فَالِقُ الْاِصْبَاحِۚ وَجَعَلَ الَّليْلَ سَكَناً وَّالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ۗذٰلِكَ تَقْدِيْرُ الْعَزِيْزِ الْعَلِيْمِ)
(قُلْ اَرَءَيْتُمْ اِنْ جَعَلَ اللّٰهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً اِلٰى يَوْمِ الْقِيٰمَةِ مَنْ اِلٰهٌ غَيْرُ اللّٰهِ يَأْتِيْكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُوْنَ فِيْهِ ۗ اَفَلَا تُبْصِرُوْنَ)
ولخص القرآن الكريم كل ذلك في قوله تعالى:
(وَّجَعَلْنَا الَّليْلَ لِبَاساً * وَّجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًاً)
فهذه الآية ليست وصفاً كونياً مجرداً إنما هي قاعدة إلهية لتنظيم إيقاع الحياة، وحفظ الجسد، وصيانة العقل، وتحقيق التوازن النفسي والبيولوجي.
الليل وُضع للراحة، والنهار للسعي، وكل خلل في هذه المنظومة ينعكس ضرراً عاجلاً أو آجلاً على الإنسان.
وقد أثبتت الأبحاث العلمية الحديثة بدقة ما جاءت به هذه الآية من قبل أكثر من أربعة عشر قرناً وبينت نتائج البحوث العلمية الأضرار المترتبة على قلب القاعدة الفطرية هذه من كل أوجهها :
*ففي دراسة نُشرت في مجلة Current Biology عام 2017 بقيادة العالم بول كيلي من جامعة أكسفورد، تبيّن أن مخالفة الإيقاع الطبيعي للنوم والاستيقاظ المسمى علمياً بالإيقاع اليومي ( Circadian Rhythm) يؤدي إلى إرهاق دائم، وضعف في الذاكرة، وخلل في إفراز الهرمونات، وارتفاع في ضغط الدم، ويزيد من مخاطر الإصابة بالسكري وأمراض القلب.
*كما أوضح الدكتور ماثيو ووكر، أستاذ علم الأعصاب في جامعة كاليفورنيا – بيركلي، في كتابه الشهير Why We Sleep، لماذا ننام أن النوم الليلي العميق (تحديداً بين الساعة العاشرة مساءاً والثانية فجراً) هو ضروري لإصلاح الحمض النووي، وتنظيم الهرمونات، وتعزيز جهاز المناعة. وأن من يحرم نفسه من هذا النوم يتراكم لديه “دين نوم” خطير لا يمكن تعويضه بنوم النهار.
*أما من الناحية النفسية، فقد أثبتت دراسات American Psychological Association أن السهر المزمن مرتبط بارتفاع نسب القلق والاكتئاب، واضطراب المزاج، وضعف القدرة على اتخاذ القرار. والسبب أن الهرمونات التي تضبط الحالة النفسية – مثل السيروتونين والدوبامين – تتأثر سلبياً بانقلاب الليل والنهار.
*وعلى الصعيد الإنتاجي، فإن دراسة صادرة عن Harvard Business Review أثبتت أن الموظفين الذين يحافظون على نوم منتظم ليلي تزيد إنتاجيتهم بنسبة 22% مقارنة بمن يعملون بسهر متواصل، وأن إيقاع العمل الصباحي يزيد من جودة الإنجاز ودقة القرارات.
كل هذه الشواهد الحديثة تُعيدنا إلى قول الله تعالى: “وَّجَعَلْنَا الَّليْلَ لِبَاساً “، أي سكناً وراحة، “وَّجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً”، أي وقتاً للسعي والحركة. والعبارة القرآنية هنا ليست توصية، إنما هي قانون خلقي، ومن يُخالف هذا القانون، سيدفع الثمن، جسدياً، ونفسياً، واجتماعياً، وإن تأخرت مظاهر الدفع.
وفي عالمنا اليوم، لا يضيع الإنسان فقط نومه، بل يضيع معه بركة يومه، وصلاته، وطاقته، وسكينته.
فما أكثر من ينام عن صلاة الفجر، ويقوم في النهار بلا روح، يجر جسده في زحام الفوضى، وينتهي يومه بلا طائل، ثم يعيد الكرة ليلاً تحت وهم “التركيز الليلي” أو “الهدوء المسائي”، بينما جسده يصرخ، وعقله يذبل، وروحه تذوي.
إنّ السهر لا يكون مذموما إذا كان لحاجة عارضة أو عبادة زائدة في أوقات محددة من السنة كالعشر الأواخر من رمضان أو مصلحة راجحة، لكنه حين يصبح عادة دائمة، فإنه قتلٌ بطيء للذات، وتفريطٌ في النعمة، وهدمٌ متدرج للطاقات.
فالشاب الكسول أو الموظف المتوتر أو الأسرة المفككة إنما هم نتاج للبيئة الزمنية المعكوسة بأكملها .
والعلاج يبدأ من هنا: العودة إلى الفطرة. نوم مبكر، استيقاظ مبكر، تنظيم للوقت، صون للصلاة، ضبط للإيقاع الداخلي، إعادة توزيع للمهام على مدار اليوم بما يحقق الصحة، والسكينة، والعطاء.
ومن لم يتّعظ بالوحي، فليتّعظ بالعلم. ومن لم يستجب للقرآن، فليقرأ تقارير مراكز البحوث. فقد اتفقت الرسالتان: أن قلب الليل والنهار جريمة في حق الجسد والروح والحياة. وأنه لا حضارة تنشأ في ليلٍ ساهر، ولا أمة تنهض من سباتها إذا نامت في وقت الصحوة، وسهرت في وقت الغفوة.
محمد عثمان الشيخ النبوي