محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..وما أدراك ما النانو (5 من 10) مواد تتكلّم وأسطح تفكّر

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..وما أدراك ما النانو (5 من 10) مواد تتكلّم وأسطح تفكّر
منذ أن بدأ الإنسان يصنع الأشياء، ظنّ أن المادة جامدة لا حياة فيها، وأنها تؤدّي وظيفتها بصمتٍ إلى أن يوجّهها هو. لكن علم النانو جاء ليقلب هذا التصوّر رأسًا على عقب؛ إذ أظهر أن المادة يمكن أن تستجيب، وتتفاعل، وتفكّر بطريقتها الخاصة، وأن الأسطح الجامدة يمكن أن تصبح ذكيةً كالأحياء، تميّز ما يلامسها، وتتحكّم فيما يدخلها أو يخرج منها.
إننا اليوم أمام جيلٍ جديد من المواد يُعرف باسم المواد النانوية الذكية (Smart Nanomaterials)، وهي مواد مصمَّمة لتتغيّر خصائصها تلقائيًا استجابةً للمؤثرات من حولها: حرارةً كانت أو ضوءًا أو رطوبة أو ضغطًا أو تيارًا كهربائيًا. إنها مواد “تفكّر” بوصفها أنظمة استجابية دقيقة مبرمجة فيزيائيًا وكيميائيًا، لا وعيًا إدراكيًا، إذ تتفاعل بنيتها الداخلية مع المحيط فتُبدّل لونها أو شكلها أو سلوكها وفق ما تتلقاه من إشاراتٍ محددة، في نظامٍ يُشبه — من حيث آلية الاستجابة وتحويل الإشارة إلى فعل — ما تقوم به الأعصاب في الجسد الحيّ.
ففي عالم البناء مثلًا، صارت هناك دهانات نانوية تنظّف نفسها تلقائيًا عندما تتعرّض لأشعة الشمس، بفضل جسيماتٍ دقيقةٍ تكسر الأوساخ والملوّثات. وهناك أسطح مضادة للبكتيريا مكسوّة بجزيئات فضةٍ نانوية تمنع نموّ الجراثيم، وزجاجٌ ذكيّ يغيّر شفافيته تبعًا لشدة الضوء أو درجة الحرارة، فيغدو نافذةً تُنظّم نفسها كأنها تفهم الجوّ. بل تجاوز الأمر ذلك إلى ابتكار مواد تستشعر الكسر أو الخلل في الجسور والطائرات والمباني، فتُرسل إشاراتٍ تحذيرية مبكّرة قبل وقوع الخطر.
وهناك أيضًا ما يُعرف بـ الأقمشة النانوية الذكية، التي تستجيب لحرارة الجسم فتُبرّده أو تُدفئه، وتطرد الرطوبة أو تقاوم الميكروبات، وبعضها مزوّد بجسيماتٍ دقيقةٍ قادرة على تحويل الحركة إلى طاقةٍ كهربائية، في اتجاهٍ بحثيّ يسعى إلى شحن الأجهزة الصغيرة أثناء الحركة. لم تعد المادة ساكنة؛ بل صارت “كائنًا صامتًا متفاعلًا”، يترجم المثيرات إلى استجابة.
أما في الطب، فقد امتدت الفكرة إلى الأسطح الحيوية النانوية التي “تتحاور” مع الخلايا. فزراعة الأسنان والمفاصل والشرائح المعدنية في الجسم أصبحت تُغطّى بطبقاتٍ نانوية تُخاطب الخلايا الحيّة وتحثّها على الالتئام، فتندمج المواد الصناعية مع أنسجة الجسد دون رفضٍ مناعي. إنه حوارٌ صامتٌ بين الإنسان والمادة، لم يكن ممكنًا قبل علم النانو.
وليس هذا إلا صورةً مصغّرةً من سنّة الله في الخلق؛ فكلّ ما في الكون يستجيب ويدرك بطريقته الخاصة، كما قال تعالى:
﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾.
وما يفعله العلم اليوم هو أنه بدأ يفقه بعض هذا “التسبيح”، أي بعض هذا النظام الدقيق الذي يجعل الأشياء تعرف مواقعها وتؤدّي وظائفها في توازنٍ عجيبٍ هو سرّ الحياة كلها.
إن ما يسمّيه العلماء “ذكاء المادة” ليس وعيًا بشريًا، بل ترجمةٌ لخصائص أودعها الله فيها، كما أودع في النحل غرائزها، وفي النبات هدايته، وفي الذرّة نظامها. ومن هنا يتّضح أن النانو ليس مجرد علمٍ للتحكّم في الأشياء، بل علمٌ لفهم استجابات الخلق كما أُودعت في أصغر مكوّناته.
وفي السودان، يمكن لهذا المجال أن يفتح بابًا واسعًا للإبداع الصناعي المحلي. فمواد البناء الذكية يمكن أن تُستخدم في
المدن الحديثة لتقليل استهلاك الطاقة، والأقمشة النانوية يمكن أن تُطلق صناعةً جديدةً منسوجةً من العقول السودانية. بل إن تطبيقات النانو في حماية الآثار، وتعقيم المياه، وتطوير الزجاج والعوازل، يمكن أن تُحوّل الصناعات التقليدية إلى صناعاتٍ متفاعلةٍ وذكية تُسهم في نهضةٍ شاملةٍ مستدامة.
إن المادة حين “تفكّر” لا تفعل إلا أن تُظهر وجهها الآخر: وجه النظام الكامن فيها. والعلم حين يصل إلى هذا الحدّ من الإتقان لا يزيد الكون إلا إعجازًا. فسبحان الذي جعل في الجماد حركة، وفي الذرّة نظامًا، وفي الإنسان عقلًا يكشف أسرارها.
النانو في هذا المستوى ليس علمًا هندسيًا فحسب، بل وعيٌ جديد بسنن الوجود، وتذكيرٌ للإنسان بأن كلّ شيءٍ في هذا الكون حيٌّ بطريقةٍ ما. ومن فهم هذه الحقيقة، فهم أن النهضة لا تقوم على الحديد والحجر وحدهما، بل على تحويل المادة إلى فكر، والفكر إلى عمل، والعمل إلى حياة.





