مقالات

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..وما أدراك ما النانو (4 من 10) حينما تُنتِج الذرّة ضوءها

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..وما أدراك ما النانو (4 من 10) حينما تُنتِج الذرّة ضوءها

 

حين نتأمل الكون، نجد أن الضوء هو اللغة الأولى للحياة، والوسيط الخفي الذي به تُرى الأشياء وتتحقق وظائفها. فبه تُبصر العيون، وبه تنمو النباتات، وبه تُدار دورات الطاقة في الأرض. ومنذ فجر المعرفة والإنسان يحاول أن يفهم هذا السر العجيب: كيف تولد الذرّة الضوء؟ وكيف يمكن التحكم فيه وتسخيره؟

لقد أدرك العلماء أن الضوء ليس مجرد إشعاعٍ عابر، بل مظهرٌ من مظاهر الطاقة الكامنة في المادة نفسها. فعندما تنتقل الإلكترونات داخل الذرّة بين مستويات الطاقة، تُصدر أو تمتص فوتونات الضوء. ومن هنا بدأت رحلة طويلة لفهم العلاقة الدقيقة بين الضوء والمادة، حتى جاء علم النانو ليمنح الإنسان قدرة غير مسبوقة على توجيه هذه الظاهرة، لا على مستوى المادة الكلية، بل في قلب الذرّة ذاتها.

في عالم النانو، حيث يتم التعامل مع المادة عند مستوى الجزيئات والذرّات، تتغير خصائص الضوء جذريًا. فالجسيمات النانوية لا تتفاعل مع الضوء كما تفعل المواد التقليدية، بل تعيد تشكيله: تُكثّفه، أو تُغيّر طوله الموجي، أو تتحكم في زمن انبعاثه، حتى صار بالإمكان إنتاج ضوءٍ ملوَّن بدقة عالية وفق حجم الجسيم وشكله وبنيته.

ومن أبرز تطبيقات ذلك ما يُعرف بـ النقاط الكمية (Quantum Dots)، وهي جسيمات نانوية فائقة الصغر تُصدر ألوانًا مختلفة من الضوء بحسب حجمها. فكلما كبر حجم النقطة مال الضوء نحو الأحمر، وكلما صغر اتجه نحو الأزرق، وبينهما طيف واسع من الألوان النقية. وبهذه التقنية لم يعد الضوء مجرد وسيلة للرؤية، بل أصبح مادةً قابلة للتصميم، تُستخدم في الشاشات عالية الدقة، والأجهزة الضوئية، والخلايا الشمسية، بل وفي الطب لتصوير الخلايا وتتبع الأورام بدقة لونية غير مسبوقة.

وهكذا تحوّل علم النانو من علمٍ للمادة إلى علمٍ للنور، ومن التحكم في الذرّة إلى توجيه ضوئها. فالشاشات الحديثة التي تبهرنا بسطوعها ودقتها إنما تعتمد على هذه الجسيمات النانوية، التي تمنح ألوانًا أكثر نقاءً مع استهلاكٍ أقل للطاقة. وحتى في مجال الطاقة الشمسية، أتاح النانو تحويل ضوء الشمس إلى كهرباء بكفاءة أعلى عبر خلايا تمتص طيفًا أوسع من الإشعاع وتحوّله إلى طاقة نظيفة مستدامة.

ومن اللافت أن تطور تقنيات النانو قد مكّن الإنسان أيضًا من تخزين الضوء نفسه، من خلال مواد فوتونية نانوية تحتفظ بطاقة الفوتونات وتُطلقها عند الحاجة. وبهذا قد يصبح من الممكن مستقبلًا إضاءة البيوت والطرقات بمواد شفافة تختزن الضوء دون أسلاك أو وقود، في تحول نوعي يعيد تعريف مفهوم الطاقة والإضاءة.

وفي السودان، حيث الشمس مورد دائم لا ينضب، يمكن لهذه التقنيات أن تُحدث نقلة استراتيجية في مجال الطاقة. فبخلايا نانوية منخفضة التكلفة وعالية الكفاءة يمكن توفير الكهرباء للقرى والمناطق النائية، وتشغيل المشاريع الزراعية والصناعية بالطاقة النظيفة، بدل الارتهان للوقود المستورد عالي الكلفة. فالنانو هنا ليس ترفًا علميًا، بل أداة تحرر اقتصادي وبيئي.

إنها مرحلة جديدة من علاقة الإنسان بالكون؛ حيث يتعلم أن الضوء الكامن في الذرّة يمكن أن يكون مفتاحًا لإنارة الحياة نفسها. وكلما تعمق الإنسان في فهم هذه القوانين ازداد وعيه بأن النور ليس مجرد ظاهرة فيزيائية، بل نظام شامل تقوم عليه الحركة والحياة والمعرفة. فالعلم حين يكشف قوانين الضوء لا يخلقه، بل يكتشف سننه، ويُحسن التعامل معها.

فما أعجب هذه الرحلة: من الذرّة إلى الضوء، ومن المعرفة إلى الوعي، ومن التقنية إلى النهضة. إن النانو في جوهره ليس مجرد مشروعٍ علمي، بل رسالة وعيٍ جديد؛ أن الكون محكوم بقوانين دقيقة، وأن الإنسان حين يُتقن عمله في الأرض إنما يُسهم في توسيع دائرة النور بالحكمة والعلم والمعرفة.

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى