مقالات

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء وتدبر..نحو سودان خالٍ من الملاريا مشروع استئصال المعضلة المستدامة

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء وتدبر..نحو سودان خالٍ من الملاريا مشروع استئصال المعضلة المستدامة

 

 

الملاريا في السودان مأساة صامتة، حيث يعد السودان من أكثر الدول تأثراً بهذا المرض في العالم، إذ تنتشر في معظم أقاليمه بسبب العوامل البيئية والمناخية والاقتصادية، مما يجعلها وباءً مستوطناً دائم الحضور.
وهذا أمر عجيب، لأن القضاء على الملاريا ليس بالأمر الصعب تقنياً، بل هو أمر ممكن وميسور، وتثبت ذلك دراسة واقعية على أرض السودان أعدّها أحد كبار العلماء في القرن العشرين في مجال مكافحة الآفات البروفيسور

العراقي الراحل جليل أبو الحب، الذي نجح في قيادة الحملة التي قضت على الملاريا في العراق في خمسينيات القرن الماضي.
لماذا يُدهشنا استمرار الملاريا في السودان؟
العجب كل العجب أن القضاء على الملاريا يمكن أن يتم بميزانية تُصرف مرة واحدة، وقد لا تتجاوز ما تصرفه الدولة سنوياً في العلاج والمكافحة الجزئية المتفرقة!
وهو مرض قاتل وخطير، ولكن كثيراً من السودانيين يستهينون به ويظنونه “حمى عادية”، بينما هو في الحقيقة أخطر مما يتصور الجميع.

آثار الملاريا في السودان
● ملايين الإصابات سنوياً، ونسبة وفيات مرتفعة خصوصاً بين الأطفال والحوامل.
● تعطيل الإنتاج الزراعي والعمالي، خاصة في موسم الأمطار – وهو الموسم الأهم زراعياً.
● إنهاك النظام الصحي وإرهاق الكوادر الطبية واستنزاف ميزانية الدولة.

● ارتفاع معدلات الغياب عن العمل والتحصيل الدراسي.
● إفقار الأسر نتيجة تكرار الإصابة وتكاليف العلاج.
● تعطيل التنمية المستدامة في الريف والحضر.
تجارب الشعوب: العراق نموذجاً مبكراً
رغم شُحّ الإمكانات، تمكنت دول كثيرة من القضاء على الملاريا حين توفرت الإرادة.

ومن أبرز هذه النماذج العراق في خمسينيات القرن العشرين. فقد وضع علماء العراق، وعلى رأسهم البروفيسور جليل أبو الحب، خطة دقيقة للقضاء على بعوض الأنوفليس Anopheles Arabian، وهو ذاته النوع السائد في السودان (بنسبة 95%).
وما يثير الإعجاب في التجربة العراقية أن فرق المكافحة كانت تعمل في ظروف شديدة البدائية: لا سيارات، لا طرق ممهدة، لا اتصالات، لا طائرات رشّ. بل كما قال أبو الحب نفسه، كانوا يستعينون بالحمير والبغال للوصول إلى المناطق الموبوءة!

ورغم ذلك، أعلن العراق نفسه خالياً من الملاريا خلال سنوات قليلة.
وقد زار البروفيسور أبو الحب السودان في التسعينيات، بدعوة خاصة على نفقتنا، ووقف بنفسه على الواقع ميدانياً، واطلع على البحوث السابقة، وزار الإدارات المختصة، وأعدّ دراسة تنفيذية دقيقة، رفعها لوكيل وزارة الصحة آنذاك الدكتور عبد الله أحمد عثمان، وحازت الدراسة قبولاً واسعاً، لكنها لم تُنفذ للأسف، ولا تزال محفوظة لدينا، صالحة لأن تكون نواة لخطة وطنية مستدامة.

الملاريا: المرض المخادع
من أهم ما يجب أن يعلمه الناس عن الملاريا أنها ليست مرضاً بسيطاً ظاهر الأعراض، بل هي مرض مخادع يتقمص أعراض أمراض كثيرة، مما يجعل تشخيصها صعباً وخطيراً.
وقد أخبرني البروفيسور الطيب يوسف – حفظه الله – أنه اطلع على كتاب لعالم بريطاني قال فيه: “Malaria can mimic the symptoms of nearly every disease.”
(الملاريا يمكن أن تتقمص أعراض كل الأمراض تقريباً)
من مظاهر خطورتها وتشابهها مع أمراض أخرى:
● ارتفاع أو انخفاض الحرارة بشكل متعاقب أو متضاد.
● الإسهال والإمساك عند نفس المريض خلال أيام.
● آلام تشبه الإنفلونزا أو التيفوئيد أو الالتهابات الجرثومية.

● في بعض الحالات، تُسبب التهاباً في الدم برفع كريات الدم البيضاء (يُشخّص خطأ كـ septicemia).
● ارتفاع ESR أو Uric Acid دون سبب واضح.
● وقد لا تظهر بالفحص المخبري المعتاد، خاصة في المراحل الأولى أو في الحالات الخفية (subclinical malaria).

أرقام مفزعة
بحسب تقرير منظمة الصحة العالمية لعام 2023:
● عدد الإصابات عالميًا: 247 مليون إصابة.
● عدد الوفيات: 619 ألف وفاة، معظمها في إفريقيا.
● في السودان: تُقدّر الإصابات السنوية بما يزيد عن 3 ملايين حالة، مع آلاف الوفيات.
تجارب عربية وعالمية ناجحة

● مصر وبلاد الشام: رشّ منتظم وتنظيم شبكات الري.
● الخليج: حملات إبادة بيئية شاملة.
● المغرب العربي: مراقبة دقيقة ومراكز بحثية متخصصة.
● أوروبا بعد الحرب العالمية: تجفيف مستنقعات، تحسين عمراني، ورش جوي.
تقنيات حديثة متاحة اليوم:
● مبيدات ذكية طويلة الأمد.
● تقنيات CRISPR لإنتاج بعوض غير ناقل للمرض.
● ناموسيات معالجة فعّالة.
● خرائط حرارية رقمية لرصد انتشار البعوض.
فهل يُعقل أن نعجز اليوم، في السودان، مع كل هذه الأدوات؟

الجواب لا. بل المانع الحقيقي هو:
غياب الإرادة السياسية.
ضعف التمويل.
عدم الاعتراف بالملاريا كخطر استراتيجي، لا مجرد تحدٍّ صحي.
خطة وطنية مقترحة:
1. إعلان “القضاء على الملاريا” هدفاً وطنياً خلال سنوات محددة.
2. إنشاء مجلس وطني دائم لمكافحة الملاريا برئاسة سيادية.

3. تجفيف المستنقعات وتعديل أنظمة الري والصرف.
4. إدخال أحدث تقنيات المكافحة البيئية والدوائية.
5. حملات توعية مجتمعية وتدريب فرق محلية.
6. توطين إنتاج المبيدات والناموسيات.
7. شراكات دولية تحفظ السيادة وتسرّع التنفيذ.
لا نجاح بلا إصلاح شامل:
هذا المشروع الوطني العظيم لن ينجح إلا بتطبيق تحرير اقتصادي كامل لكل الأنشطة والموارد والإنتاج والخدمات.

وتفعيل نظام ضبط عصري صارم لأداء أجهزة الدولة، يحسم الفساد، ويحاسب القصور، ويضمن العدالة والكفاءة والانضباط.
فمشروع بهذا الحجم، لا يمكن أن يُدار بشعارات أو بيروقراطية متكلسة، بل ببيئة تنافسية حرة مرنة، تخضع للرقابة والمساءلة.

استئصال الملاريا في السودان ليس رفاهية ولا خيالاً، بل هو عنصر أساسي في نهضتنا، وقابل للتحقيق تماماً كما فعلت دول أفقر منا وأضعف بنية حينما بدات.

محمد عثمان الشيخ النبوي

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى