مقالات

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب:.. بهدوء وتدبر..الفطور المقدس والتدين الكاذب !!

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب:.. بهدوء وتدبر..الفطور المقدس والتدين الكاذب !!

 

 

من العادات الغريبة الضارة المتفشية في مؤسسات الدولة السودانية ما يُعرف بـ”الفطور”، وهي ظاهرة باتت أقرب إلى عبادة مقدسة لا تُمس ولا تُنتقد، رغم أنها تشكّل واحدة من أبرز صور الإضرار بالمواطن والدولة على حد سواء. فلا يكاد يُذكر السودان في مجال الانضباط الوظيفي إلا وتطفو على السطح هذه العادة المثيرة للدهشة، التي تمثل انعكاساً لمستوى التسيب الإداري، والاستهتار بأوقات الناس، والتنصل من مقتضيات المسؤولية.

فمن المألوف بل المكرر أن يذهب المواطن إلى أحد دواوين الدولة لقضاء حاجة مستعجلة، فلا يجد الموظف المعني. وإذا تجرأ وسأل عن غيابه، فستأتيه الإجابة المكرورة: “في الفطور”، وكأنما قيل له: “انتظر قدرك!”. هكذا تضيع الحقوق، وتُعطل المصالح، وتُحتقر كرامة الإنسان دون أدنى حرج من القائمين على الأمر، بل إن الاعتراض ذاته على هذا السلوك يُعد وقاحة تستوجب العقاب بالتجاهل أو المزيد من الانتظار أو “البهدلة”.

والمفارقة العجيبة أن هذا “الفطور المقدس” لا وقت له، فهو قد يكون في بداية الدوام، أو في منتصفه، أو في نهايته، بحسب المزاج والموقع الجغرافي و”اللفة” الاجتماعية. وقد يمتد الأمر لأكثر من ساعة، أو حتى ساعات، يجتمع فيها الموظفون للبحث عن مطايب الطعام والمشهيات في بهجة ونشاط لتناول الفطور والضحك والأنس يعقبه تناول كؤوس الشاي والقهوة في استرخاء ثم تعاطي مكيفات التدخين والتمباك ، وكأنهم في رحلة ترفيهية لا في ساعات خدمة عامة تُصرف عليها أموال الدولة، ويُفترض أنها مخصصة لإنجاز شؤون المواطنين .

وقد رُوي أن مواطناً دخل على أحد الدواوين يبحث عن موظف، فقيل له:

– “يا زول، الزول ده منتظرك من الصباح!”

فرد الموظف بكل هدوء:

– “أخلي ليهو الفطور يعني ولا شنو!”

وما يزيد الأمر سوءاً أن “الفطور المقدس” هذا ليس إلا رأس جبل الجليد، فمعه تتمدد ظواهر سلبية أخرى، مثل كثرة الغياب بلا إذن ولأسباب واهية تشمل زيارات المرضى ومجاملات الزواج أو ختان أبناء الجيران والأقارب أو السماية !! أيضا التأخير المتعمد الطويل ، والخروج الجماعي لتقديم واجب العزاء –

مع كامل الإحترام للجانب الإجتماعي والإنساني – ولكن ذلك غالباً ما يتم على حساب ساعات العمل التي هي حق للناس، لا ملك شخصي للموظف وكلها يمكن أداؤها بعد ساعات العمل . وحتي الحالات القاهرة يمكن أداؤها في أوجز وقت مع إيجاد بديل للموظف الغائب يصرف العمل إلى حين حضوره .

أيضا ظاهرة (تعال بكرة) دون مبرر فالمعاملة يمكن انجازها في دقائق وربما ثوان والموظف ليس مشغولاً وليس هناك ما يبرر التأجيل ألى (بكرة) !!

ومن بين هذه الظواهر السالبة أيضاً ما يمكن تسميته بـ”الورع المتكاسل”، وهو حين يُؤدى فرض الصلاة جماعة – وهذا محمود – لكن يسبق الصلاة وقت طويل في دخول الحمامات والجلوس المتراخي في أماكن الوضوء . وبعد الصلاة يتحول الأمر إلى مجلس أنس مطول، أو جلسة استماع لمحاضرة، أو جلسة لتلاوة جماعية، في مظهر إيماني خارجي جميل، لكنه

في حقيقته اعتداء على الزمن العام ومقتضيات الوظيفة. وهنا تُقلب القيم، فتصير العبادة المستحبة سبباً في إهمال الفريضة الأهم: أداء حقوق الناس. وهذا قلب للمعايير لا يقبله الشرع نفسه، إذ من المقرر شرعاً أن النوافل لا تقدَّم على الواجبات، بل قد تتحول إلى معصية حين تُؤدى النوافل على حساب الفروض .

إن هذه الممارسات ليست مجرد سلوك فردي هنا وهناك، بل باتت ثقافة سائدة تُرعى بالصمت، وتُبرر بالعادات، وتُمرر بالمجاملة. والأسوأ من ذلك أن المواطن المقهور على أمره قد يتواطأ بالصبر والسكوت، لأن الاعتراض “قد يكلفه أكثر مما يكلفه الانتظار”.

ولن تنهض الدولة أبداً ما لم يُكسر هذا النسق المتكلس من التسيب واللامبالاة، وما لم يُعد الاعتبار لهيبة الوظيفة العامة ومقتضياتها. فزمن الموظف في الدولة ليس ملكاً له، بل أمانة يُحاسب عليها. وكل ساعة تُضيّع في غير عمل هي خيانة لثقة الناس، وفساد مقنّن يُنهك البلاد أكثر مما يفعل أي عدو خارجي.

 

إن “الفطور الدوار المقدس” وغيره من مظاهر التسيب الإداري، ليست مجرد طقوس عابرة، بل هي أعراض لمرض أعمق في بنية الدولة وعقلية الموظف وثقافة العمل. ومواجهة هذا الخلل تبدأ بالاعتراف به، وفتح النقاش الجاد حوله، وسَنّ سياسات انضباط صارمة، وتثقيف الموظفين بحقوق الناس وأولويات الشرع والعقل والمروءة.

ايضاً معضلة الهاتف حيث يقف المواطن المسكين منتظراً انجاز معاملاته بينما الموظف ممسك بالهاتف في محادثات طويلة تتخللها الضحكات وتبادل الأخبار والسؤال والإجابات المطولة منه ومن الطرف الآخر ومناقشة شؤون الأسر والعائلات وغيره مما لا يمت للعمل بصلة أو مما يمكن التحدث فيه في ثوان .

ولن يكون هناك علاج جذري وفاعل لهذا النمط المتسيب من الأداء الوظيفي، إلا بتعميم تطبيق الأنظمة الحديثة الضابطة لمراقبة الدولة (SYSTEM)، بما يضمن الرقابة الرقمية المباشرة على أداء الموظف، ويُعيد الاعتبار للزمن العام، ورصد زمن العمل الحقيقي لان مجرد وجود الموظف دون عمل حقيقي لا معني له وهذا الرصد يحقق الشفافية والمساءلة في دواوين الدولة.

 

فلا دولة تُبنى بحقوقٍ ضائعة، ولا نهضة تقوم على فطورٍ لا ينتهي!

 

محمد عثمان الشيخ النبوي

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى