محمد عثمان الشيخ النبوى يكتب:.. بهدوء و تدبر..تحويل موارد السودان إلى أصول سيادية تموّل النهضة

محمد عثمان الشيخ النبوى يكتب:.. بهدوء و تدبر..تحويل موارد السودان إلى أصول سيادية تموّل النهضة
من أبرز ما يتيحه التحرير الاقتصادي الشامل حين يقترن بالحوكمة الرشيدة والرقمنة المتكاملة وسيادة القانون، أنه لا يقف عند حدود إصلاح بيئة الإنتاج وجذب الاستثمارات فحسب، بل يفتح أمام السودان آفاقًا جديدة للتمويل لم تكن متاحة من قبل. ففي هذه البيئة تتحول الموارد الكامنة إلى أصول سيادية يمكن إدراجها في الميزانية العامة وتقديمها كضمانات معترف بها عالميًا لتمويل مشروعات التنمية. والسودان، إلى جانب الذهب، يملك احتياطيات ضخمة من المعادن النفيسة مثل البلاتين والليثيوم والتانتالوم، وهذه الثروات يمكن أن تنتقل من كونها خامات مدفونة إلى أصول مالية معتبرة متى توفرت البيئة القانونية والمؤسسية النزيهة والشفافة. عندها يصبح إصلاح البيئة العامة هو الذهب الحقيقي الذي يغني الدولة والشعب معًا، بينما تأتي المعادن إضافةً ترفع من القيمة والمردود.
الآلية المقترحة تقوم على إصدار لوائح وتشريعات تُعَرِّف هذه الموارد كأصول قابلة للإدراج الدفتري، وإنشاء صندوق سيادي أو شركة غرض خاص تتولى تجميع هذه الأصول وإخضاعها للتدقيق السنوي، ثم التعاقد مع بيوت خبرة عالمية متخصصة مثل SRK Consulting وMinxcon في جنوب أفريقيا، أو China ENFI وMCC في الصين، أو Rosgeo في روسيا، وهي جهات قادرة على إعداد تقارير احتياطيات معتمدة وفق المعايير الدولية JORC أو SAMREC أو NI 43-101. وتُدرج هذه التقارير لاحقًا ضمن القوائم المالية للدولة أو الصندوق السيادي بعد أن تراجعها مكاتب محاسبة دولية، فتحوّلها من مجرد موارد خام إلى أصول مالية موثقة يمكن أن تُستعمل في هياكل تمويل متنوعة، مثل التمويل غير الرجعي المسدد من عوائد التشغيل، أو عقود التوريد المسبق، أو صيغ الدفع مقابل حصة من الإنتاج المستقبلي. وهذه أدوات آمنة لا تنتقص من السيادة، وإنما تستثمر الموارد بطريقة علمية شفافة.
تجارب عدة دول تؤكد فاعلية هذا النهج: فقد اعتمدت جنوب أفريقيا معايير SAMREC لتمكين قطاعها التعديني من جذب التمويل، بينما حولت زامبيا جزءًا من احتياطيات النحاس الموثقة إلى أداة للتمويل الخارجي، واستطاع المغرب أن يوظف الفوسفات كأصل مالي عبر المكتب الشريف للفوسفات فحقق توسعًا عالميًا واسعًا، في حين استفادت السعودية من إدراج احتياطياتها المعدنية والنفطية ضمن أصول صندوق الاستثمارات العامة، وهو ما فتح أمامها أبواب تمويل كبرى المشاريع التنموية. وهذه النماذج تبين أن السودان أمام طريق واضح ومجرّب لا أمام مغامرة مجهولة.
أما في ما يتعلق بالعقوبات الأمريكية، فإن السودان لا يخضع لحظر شامل كالذي فُرض على إيران أو كوريا الشمالية، بل لعقوبات انتقائية تستهدف أفرادًا وكيانات بعينها. وهذا لا يمنع من التعاقد مع شركات تقييم في جنوب أفريقيا أو الصين أو روسيا أو غيرها لإصدار تقارير احتياطيات معتمدة، طالما روعيت الشفافية واستُبعدت الجهات المدرجة على قوائم العقوبات. لذلك لا ينبغي المبالغة في تضخيم أثر هذه العقوبات، فبمجرد إنشاء واجهة مؤسسية شفافة مثل صندوق سيادي أو شركة غرض خاص يصبح التعامل مع البنوك والمؤسسات الدولية أمرًا ممكنًا دون عراقيل جوهرية.
ومن المهم أن يُخصَّص التمويل الناتج عن هذه الآلية لمشروعات البنية التحتية الأساسية والمشروعات الإنتاجية ذات العائد المالي المؤكد بعد التنفيذ، مثل الكهرباء والطرق والموانئ والمطارات والصناعات التحويلية المرتبطة بالزراعة والتعدين، ضمانًا لأن يُسدد التمويل من عوائد فعلية ومستدامة لا أن يُهدر في مصروفات جارية أو مشاريع بلا مردود.
كما أن أثر هذا النمط من التمويل لا يقف عند حدوده المباشرة، بل يفتح الباب ويعجّل بتمويل أنماط أخرى مثل صيغ BOT و PPP، حيث تبادر الشركات الكبرى إلى المشاركة في مشاريع البنية التحتية والتنمية متى رأت أن موارد الدولة موثقة كأصول سيادية ومعتمدة عالميًا. وهكذا يصبح التمويل السيادي المعتمد محفزًا لكل أشكال الاستثمار الأخرى، ويحوّل السودان إلى وجهة جاذبة للمشاريع العملاقة المتكاملة.
الفائدة هنا مزدوجة: فمن ناحية يتمكن السودان من الوصول إلى مصادر تمويل آمنة ومستقرة بعيدًا عن رهانات السياسة قصيرة الأجل، ومن ناحية أخرى يعزز مركزه المالي ويجذب استثمارات جديدة بفضل الشفافية والحوكمة. كما أن هذا النهج يقلل من الاعتماد على الذهب وحده ويوسع قاعدة الأصول السيادية، فيجعل من الثروات المعدنية عنصرًا فاعلًا في النهضة الاقتصادية بدلًا من بقائها خامات معطلة أو موارد مهدرة بلا مردود.
إن تطبيق هذه الآلية التمويلية لا يمكن أن ينجح في ظل بيئة فاسدة أو هشة أو بلا مؤسسات، بل يحتاج إلى إصلاح جذري يقوم على التحرير الاقتصادي الشامل، وتفعيل الحوكمة الرقمية المتكاملة، وإنفاذ القانون بصرامة. عندها فقط يمكن للسودان أن يقدم موارده للعالم كأصول معتمدة، لا كمواد خام تباع بأبخس الأثمان، وأن يبني على أساسها قاعدة تمويلية متينة تدعم مشروعات البنية التحتية والإنتاج وتدفع بالحراك النهضوي العام خطوات واسعة إلى الأمام.
وبهذا يتأكد أن التحرير الشامل والحوكمة والرقمنة ليست إصلاحات إدارية معزولة، بل هي مفاتيح عملية تفتح أبواب التمويل العالمي وتضع السودان في مسار جديد، حيث تتحول موارده من عبء غير مستغل إلى ضمانات سيادية ذات وزن مالي دولي، تعزز استقلاله الاقتصادي وتمكّنه من صناعة مستقبل تنموي راسخ ومستدام.





