محمد شريف ابوداؤود يكتب :سياحة فى روائع الادب النوبي ..قصيدة (دسي) لامير شعراء النوبة جلال عمر قرجة
سياحة فى روائع الادب النوبي
قصيدة (دسي) لامير شعراء النوبة جلال عمر قرجة
بقلم محمد شريف ابوداؤود
1
بقلم : محمد شريف أبو داؤود قصيدة دسي
قصيدة دسي لأمير شعراء النوبة جلال عمر تعتبر من أجمل القصائد النوبية في الغزل، حيث تمتاز بالعذوبة و الرقة و الخيال الشعري الجامح و قوة السبك وبساطة وجمال المفردة، بعيدًا عن التكلف والإسفاف، مترعة بالبوح والشوق والأنين , وتعتبر من أجمل ما قيل في الغزل العذري العفيف و لعل ما يمزها هذا الحوار الدافئ الجميل بين الحبيب و محبوبته بلغة شعرية رفيعة لا تصدر إلا من شاعر مطبوع كـــ(جلال) و الذي دوما ما تتولد قصائده و تنبع من المواقف التي يمر بها و يعيشها بوجدانه , فكل قصيدة من قصائده تحمل حالة شعرية إستثنائية متفردة لا تشبه الأخريات و لا أجزم إن كان قد إلتزم بنهجه في هذه القصيدة أم قد تقمص شخصية المحب ومحبوبته. ففي كل الأحوال نحن من فاز بهذه الرائعة التي تعد لونية جديدة غير معهودة في الشعر النوبي حيث تقارض المحبان بصورة ساحرة جميلة ،مما دعاني إلى شرحها و تحليلها لتبيان بعض محاسنها , فشاعرنا تفصح لك نصوصه في كل مرة تقف عندها على وجه مغاير و معنى جديد فأنعم وأكرم به من شاعر. فهو حقيقة كما قال شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت:
إذا قال لم يترك مقالا لقائل
بملتقطات لاترى بينها فضلا
كفى وشفى ما في النفوس فلم يدع
لذي إربة في القول جدا ولا هزلا
فشاعرنا بجانب إجادته اللغة النوبية و تبحره فيها، مطلعٌ على الأدب العربي قديمه وحديثه ويحفظ كثيراً من النصوص للعديد من الشعراء العرب مما أكسبه ثقافة واسعة ثرة.
و كما هو معلوم فالحب حالة تتملك الإنسان و تنتابه و تأخذ بشغاف قلبه بعد مقابلته وإستلطافه للشخص المعني, وقد يصلا فيه إلى مراحل متقدمة و ينغمسا في العشق و الصبابة و الوله فيشعر حينها المحب أنه لا يستطيع ولا يقوى على مفارقة حبيبه و العيش من دونه أيا كان هذا الحبيب كما هو الحال مع أبطال هذه القصيدة.
هول المفاجأة:
يصور لنا الشاعر في هذه القصيدة كيف أن الحبيب تفاجأ بسفر محبوبته غير المعلن حيث ألفاها لدى المحطة وهي تستعد للانطلاق، فدخل في حالة من الوجوم والذهول و أسقط في يده ثم تدارك الموقف بعد أن جمع شتاته و استعاد توازنه و دخل معها في هذا الحوار الجميل مستهلاً قصيدته بهذا البيت الأخاذ:
أليـــن تا هــــــي دسي ار نقوسكون
اكي مشكــــري تا إمــــبلوسكــــــون
ان أشي تا ان نار بلوسكون
أبا أن دقور قن ويـــــر تا السكون
فها هو يسألها – وقد ألجمته المفاجأة – سؤال المفجوع، هل حقيقة ما أرى و أسمع أيتها السمراء وهل فعلا عزمت على الرحيل؟! و كيف أن طاوعتك نفسك على إتخاذ هكذا قرار حتى دون إعلامي؟ ونحن ما زلنا لم نرتوِ من معين هذا الحب الناشئ الوليد، فلم كل هذه العجلة ترى هل ضقت ذرعا بهذه الديار ؟! أم ترى تحول إهتمامكم لشخص آخر غيري ؟! قد يكون أحق وأجدر منا بحبكم واهتمامكم.
سيل من الأسئلة الحيرى أطلقها شاعرنا مستجدياً الإجابة عليها حيث يقول أحقاً غادرت الديار أيتها السمراء؟
و حقيقة الأمر أنها لم تغادر بعد ، بل هو يقف على مقربة منها مناجياً لها. و كان من المقبول أن يقول هل أزمعت على السفر والرحيل؟ و لكنها عبقرية الشاعر، حيث أصبح سفرها أمراً واقعًا و نافذاً لذا اعتبرها في عداد المسافرين الغائبين عن العين. و أيضا استخدامه للمفردة (أبا apa) والتي تعني (هل) و(تُرى) إذ أنها تحمل عدة معاني تفهم من سياق الجملة.
حيث يقول: (أبا أندقور قن وير تا ألوسكن apa an dogOr gen wEr te elOsko)
فالسؤال قد يكون موجهاً لمحبوبته دون غيرها بأن قال لها: هل تحوّل اهتمامكم لشخص آخر آثرتموه علينا و أحببتموه.
و قد يكون السؤال موجهاً لأصحابه و رفاقه و الأكثر التصاقاُ به و شهداء هذا الحب العفيف وهذه المناجاة العجيبة، و ربما يكون السؤال موجهاً لنفسه و هو أدرى الناس بها و بحبها له ولكن لهول المفاجأة أصبح في موقف لا يحسد عليه أيصدق ما يراه أو يكذبه فكان السؤال. أو قد يكون السؤال لعامة الناس ونحن منهم.
ولقد وفِّق شاعرنا كثيراً في إستخدامه هذه المفردة وهو دوماً ما يكون حليفه التوفيق، سؤال عفوي رقيق مشروع من شخص يذوب أسًى ، جزعًا لفراق محبوبته، فهو لم يقل كما قال الشاعر الجاهلي القدير الأعشى :
وَدِّع هُرَيرَةَ إِنَّ الرَكبَ مُرتَحِلُ وَهَل تُطيقُ وَداعاً أَيُّها الرَجُلُ
بل إن شاعرنا النوبي لم يطق حتى سماع كلمة الوداع والتي لم تكن من مفرداته.
ولا أدري أين كان هذا اللقاء العاصف هل كان في مرسى للبواخر أم في موقف للسيارات و كيف كانت لغة التخاطب؟ ترى أكانت بلغة العيون أم بلغة الإشارة و يقيني أنها لم تكن مباشرة لمخالفتها طبيعة النوبي المتشح بالحياء والعفة و خاصة و هم وسط هذا الخضم من البشر بين مودع و مستقبل فكما قال الشاعر السوداني يونس القويضي:
كعادتي وعادتك بل كعادة القبيلة
كأنني المحصن النبيل كأنك الحصينة النبيلة
الكل صامت كأننا حجر بالحب لا نبوح
وهذا القدر وهذه قواعد الفضيلة
لعمري إنه عتابٌ رقيقٌ عتاب من لم يحد عن العهد والوعد و يرجو ألا ينقطع الوصال ،أطلق شاعرنا كل هذه التساؤلات وهو متلهف لسماع ردها هل مازالت تبادله حباً بحب أم تغير عهدها؟
شرح بعض الكلمات :
أَشَيْ acay : الديار.
أبا apa: تُرى – هل.
ثم أتاه الرد من المحبوبة، ترى هل قالت له بعض الود يُصان بالبعد؟ أم قالت كما قال الشاعر:
هذا الفراق وهكذا التوديع بما يقد به حشا وضلوع
نجد اللهيب علي هتون خدودنا عند الوداع وهن سلن ودموع