محمد الحسن محمد نور يكتب: الحرااااامي… لصوص قدامى في ثياب جديدة

محمد الحسن محمد نور يكتب: الحرااااامي… لصوص قدامى في ثياب جديدة
في إحدى الليالي الصيفية بمدينة أم درمان، وبينما كانت مجموعة من الشباب العزاب ينامون في ساحة منزلهم تحت السماء، تسوّر لص جدار المنزل. حين لمحهم نائمين، تسلل إلى الداخل وجمع مقتنياتهم داخل ملاءة، واستعد للفرار. وعندما فتح الباب بحذر، تفاجأ بأن الأسرة فارغة، وأن الشباب قد اختفوا.
فزع اللص وأدرك أنه وقع في الفخ، فما كان منه إلا أن هرع إلى داخل الغرفة، وأغلق الباب خلفه صارخًا بأعلى صوته: “الحرامي! الحرامي!” طالبًا النجدة من سكان الحي خوفًا من أن يبطش به أصحاب المنزل.
تلك الحادثة كانت نموذجًا مبسطا لشكل الجريمة في السودان في فترات مضت، حيث كان اللصوص يخشون انتقام المواطنين أكثر مما يطمعون في غنائمهم. ولكن الحال لم يبقَ كذلك…
من اللص الخائف إلى العصابات المسلحة
مرت الجريمة في السودان بمراحل تطور متلاحقة، متأثرة بالتحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
فبعد مرحلة “اللص الخائف”، شهدت الأسواق ظهور ظاهرة النشل والسرقات الصغيرة، ثم انتقلت البلاد إلى موجة قطع الطرق، وظهرت جرائم القتل الفردي، بدوافع متنوعة؛ أبرزها السرقة أوالدفاع عن الشرف أو الثأر.
إلا أن نقطة التحول الكبرى جاءت ابان مجاعة عام 1988، التي دفعت أعدادًا ضخمة من النازحين الذين كانوا يرزحون تحت وطأة الجوع والفقر والمرض ويعيشون في قاع الأمية والجهل. جاءوا من كل حدب وصوب، انحدروا من غرب السودان ومن أطراف الدول المجاورة. حيث تكدسوا حول العاصمة الخرطوم ناصبين المساكن العشوائية التى أطبقت على العاصمة من الجهات الأربعة، فى ظل الضعف الحكومى وضغط منظمات حقوق الإنسان.
هؤلاء جلبوا معهم ثقافات وأساليب جديدة للجريمة، وظهرت أنماط أكثر عنفًا مثل:
النهب المسلح
عصابات النيقرس
عصابات تسعة طويلة
وباتت الجريمة أكثر تنسيقًا، وتحولت من عمليات فردية إلى تنظيمات شبه ممنهجة شملت التسول أيضاً
ضغوط الاقتصاد وتفاقم العنف
شهد السودان في عامي 2007-2008 فترة تحسن اقتصادي نسبي بفعل عائدات النفط ، وانتظام حركة الصادر وتحسن عام فى الحركة التجارية والصناعية. حينها وصل الجنيه السوداني إلى ما يعادل نصف دولار تقريبا.
غير أن هذا التحسن لم يدم طويلاً إذ قادت الضغوط الدولية والاقتتال الداخلي إلى انفصال جنوب السودان عام 2011، مما أفقد البلاد أكثر من ثلثي ثروتها ا النفطية.
انحدرت الأوضاع الاقتصادية دراماتيكيًا، ورافقها انفجار في معدلات الجريمة.
عندما اندلعت ثورة ديسمبر 2018، ازدادت الأزمة تعقيدًا. تفاقمت عمليات الخطف والنشل والنهب في الأسواق، وازداد الاضطراب وتضجر الناس من ضعف الادارة وكثرة الأزمات.
واحتدم الخلاف بين المكونين العسكري والمدني تم بموجبه إقصاء المكون المدني بكل سهولة ثم انتهى كل ذلك بصراع داخلي بين الجيش وقوات الدعم السريع أوصلنا إلى الحرب الحالية.
الجريمة الكبرى… حين يتحول النهابون إلى جيوش
مع اندلاع الحرب بين الجيش والدعم السريع في في أبريل 2023، غيرت الجريمة ثوبها وتسربلت بثوبً عسكري (مرعب)، حيث انتظمت جماعات النهب المسلح وجماعات ما سمى بالنقرز وجماعات تسعة طويلة وغيرهم من عتاة المجرمين الذين أخرجوا من السجون لينتظموا في جيوش جرارة مدججة بالدبابات والمدافع، لتعربد وتجوس خلال الديار بلا رادع.
لم تكتفِ هذه الجماعات بالسرقة والنهب بل مارست القتل الجماعى للنساء والشيوخ والأطفال التهجير القسري، الاغتصاب، والاستيلاء على الممتلكات، ثم بعد كل ذلك قامت بتخريب وحرق المنازل وما يتبقى خلفها من الممتلكات. وتدمير كل أوجه الحياة.
الآن، الجريمة فى هذا الثوب الجديد، لم تعد مجرد أفعال إجرامية فردية أو عصابات عادية؛ بل باتت تتحرك تحت رايات تنظيمات مسلحة، تتلقى الدعم من الدول الساعية لنهش أحشاء بلادنا، وتخوض معارك ضد الدولة والشعب فى وقت معًا.
وامتدت هذه الجرائم لتغطي ولايات واسعة من السودان، متجاوزة الخرطوم إلى الجزيرة وسنار والنيل الأبيض وشرق النيل وشمال العاصمة.
عودة اللصوص القدامى… ولكن في شكل جديد.
وبعد أن تمكن الجيش من استعادة مساحات واسعة من البلاد وكسر شوكة المليشيات وطردهم ،
ما يزال التهديد على أشده، فقد خلف الهاربون وراءهم عشرات الآلاف من المجرمين الذين سبق أن تم إطلاق سراحهم من السجون مع بداية الحرب. عادوا إلى الشوارع الآن، ولكنهم لم يعودوا كما كانوا لصوصًا عاديين هذه المرة، بل جاءوا مسلحون يمتلكون مختلف أنواع الأسلحة، اشتروها أو استولوا عليها من ساحات المعارك.
اليوم، تواجه البلاد واقعًا مريرًا:
لصوص مدججون بالسلاح يجوبون الشوارع ، أناس غرباء رحلوا من بيوتهم ليسكنوا ديارا غير ديارهم بزعم أن ديارهم باتت غير آمنة . فقد روى العائدون إلى ديارهم في احياء الدوحة في ام درمان بأنهم قد وجدوا كل بيوتهم مسكونة باناس غرباء ، قيل لهم انهم جاءوا من منطقة أم بدة .
فوضى ضاربة، شرطة ما زالت غائبة عن المشهد، أوعاجزة عن السيطرة، ومواطنون يعيشون بلا حماية.
إلى أين؟
ان تطور الجريمة في السودان لم يكن مجرد انعكاس لفقر اقتصادي أو هشاشة إجتماعية عابرة فحسب، بل كان نتاجًا لتراكم طويل من الأزمات وسوء الإدارة السياسية والفساد البنيوي.
اليوم، أصبح من الواضح أن معركة السودان ضد الجريمة لا تقتصر على المواجهة الأمنية، بل لابد أن تبدأ من إعادة بناء الدولة نفسها على أسس جديدة من العدالة والإنصاف والتنمية المتوازنة.
فهل ينجح السودان في إيقاف هذه السلسلة الجهنمية، وأخذ زمام المبادرة ووضع خطط لتجاوز هذا الواقع الأليم ؟
أم أن المواطن السوداني هو من يقف اليوم فى نفس مكان حرامي الأمس ويصرخ طلبًا للنجدة؟ وهل هناك من يستجيب.. أم أنه (لا حياة لمن تنادي……)