محمد احمد مبروك يكتب: مأزق وسطاء الحوار (1)
سطور ملونة
مأزق وسطاء الحوار (1)
صفر كبير توصل إليه وسطاء الحوار بعد شهور من جهود في التواصل مع المكونات السياسية السودانية . طائرات تحط من شرق وغرب ، ووفود علنية وسرية من مختلف أنحاء العالم ، ومئات الجلسات واللقاءات ، وشلالات من العمل الإعلامي الكثيف الموجه بدقة ، ومئات ملايين الدولارات صرفت على هذا العمل … كلها تمخضت عن صفر كبير ، والنتيجة هي الفشل في أجلى صوره ..
الامم المتحدة بكل حجمها الهائل ، والمنظمة الأفريقية ، وأمريكا ودول الغرب والشرق ، وأجهزة استخبارات عملاقة وحدت جهودها تجاه السودان ، وحددت الاهداف بدقة ، وأعدت وسائل صرفت عليها ببذخ بل وسفاهة . ونسقت جهود وسائل الضغط السياسية والإقتصادية بل والعسكرية لكي تقود المكونات السياسية إلى وجهة معينة ..
فجأة يتحول كل ذلك إلى هذا الصفر الكبير بخطاب من سطور قليلة يوجهه البرهان ، ويعلن فيه انسحاب الجيش إلى ثكناته ، وعدم مشاركته في الحوار تلبية لمطالب الجهات التي تقود المظاهرات ، وتغلق الشوارع ، وتخرب المرافق ، وتعطل عجلة الحياة ، مطالبين بعودة الجيش إلى ثكناته .
هنا أسقط في أيديهم وأيدي الوسطاء : الٱلية الثلاثية والترويكا واتضح لهم جميعا قصر نظرهم .. نعم قصر نظر الأمم المتحدة ، والاتحاد الاوروبي والمنظمة الأفريقية , وأمريكا وجهاز استخباراتها والإستخبارات الاخرى الموالية له ..
بجرة قلم إنهار المحور الذي يمكن أن يدور في فلكه الحوار , وأصبح الحوار خاويا من ركيزة يمكن أن يستند إليها الجميع .. وأصبح متشاكسون في مواجهة متشاكسين .. ليس هناك أهداف يمكن أن يجتمع عليها أي طرفين , وليس هناك مجرد وجهات نظر معقولة يمكن تقريبها بواسطة الوسطاء , بل إن الشقة ازدادت اتساعا .
وبانسحاب الجيش إلى ثكناته وترك المكونات السياسية السودانية في مواجهة بعضها ينطلق مارد الإسلاميين الذين كان الجيش يلجمهم , ويحد من حراكهم . وهم جماعة لا قبل للمكونات السياسية الهشة الفجة التي تتسيد الساحة الٱن بمواجهتهم . لا على الصعيد الفكري ، ولا السياسي ، ولا التنظيمي ، ولا التفاوضي ، ولا الخبرة في إدارة الدولة وتحريك الملفات ، ولا على صعيد الوزن الجماهيري والقاعدة القوية الواعية بل ولا حتي على المواجهة بالقوة .
ونتيجة لذلك لم يرتبك المشهد السياسي فقط ، إنما إنهار إنهيارا كاملا ، وسقط مبناه حتى القواعد .
وأسقط في يد قادة الحوار ، وحولهم الحرج من المسئولية أمام الجهات التي بعثت بهم وزودتهم بالنصح والمال إلى أطفال يهذون ويتخبطون ، ويصل التخبط بأكبر قائد فيهم فولكر أن يزور خطابا تزويرا بليدا تكذبه المنظمة الأفريقية دون مواربة .. ثم يعلنون تأجيل الحوار ، ثم يعلنون وقف الحوار ، ثم يصمتون حيث لم يعد لديهم ما يقال ..
وأسقط في يد النظام الدولي الذي وجد أن أجندته أفرغت من محتواها . وكان أهم عناصرها هو ابتعاد الجيش من المشاركة السياسية ، فابتعد لهم الجيش فجاة .. ثم حرية التعبير وعدم قتل المتظاهرين السلميين ، فأبيحت حرية التعبير بدرجة الفوضى والفجور والإباحية والتهتك .. وابتعد المتظاهرون عن السلمية بدرجة لا يمكن السماح بها في أية دولة ديمقراطية في العالم ، واصبحوا يعطلون الحياة ، ويحجرون علي المواطنين حرية التنقل ، ويخربون المرافق ، ويعتدون على أجهزة الأمن والجيش ومراكز الشرطة ، بل تحول بعضهم إلى قتلة للمتظاهرين ولرجال القوات النظامية !! ومن عناصر الأجندة الدولية حكومة مدنية يتم التوافق عليها ، بينما أصبح معلوما أن التوافق بين هذه المكونات مستحيل .. ومنها الإنتخابات التي إن هي جرت بعدالة ونزاهة دون ديكتاتورية أقصاء فاز بها الإسلاميون ، وهذا ما لا يريدون ولا تريد المكونات السياسية السودانية .
وارتبكت المكونات السياسية السودانية ، وتخبط بعضها ، وجن بعضها جنونا من مفاجأة انسحاب الجيش إلى ثكناته !!
البعض رفض انسحاب الجيش من الحوار ، والبعض تحفظ عليه ، والبعض خجل من المطالبة بعودة الجيش لأنه كان هو المطالب بذهابه إلى الثكنات ، فوصف الإنسحاب بأنه تكريس لما أسموه انقلاب ٢٥ نوفمبر !! فهل يعني ذلك أن يعود الجيش حتى لا (يكرس) للإنقلاب !!
الجميع يقول لابد من الوصول إلى (توافق وطني) .. هكذا .. بلا كيفية ولا عناصر لهذا التوافق . بينما عند النظر في أجندة كل مكون من المكونات السياسية تجد أن بينها بعد المشرق عن المغرب ، وانه ليس هناك سمات مشتركة يتوافق حولها .
وافرغت مصطلحات من معناها مثل (التوافق الوطني) ، و (حكومة كفاءات) ، و (الوفاء بمتطلبات المرحلة الإنتقالية) . مثلما ماتت الوثيقة الدستورية ولم يهتم أحد بنبش جثتها وتشريحها لمعرفة أسباب الوفاة .
وانزوت تماما قضايا الجماهير من فقر وعجز في متطلبات المعيشة سحقت الناس وطحنتهم طحنا وكذلك عجز الخدمات في المحروقات والصحة والتعليم والكهرباء ومياه الشرب بدرجة حولت حياة الناس إلى جحيم وكذلك التردي الأمني حيث انتشرت جرائم القتل والاغتصاب والسلب والنهب .. وتردي الوضع الإجتماعي بانفجار تفشي المخدرات والرذيلة والانتحار والتفكك الأسري ..
الٱن الوسطاء مواجهون بتحقيق وساطة وحوار والوصول إلى نتائج بينما أطراف الحوار غير محددة ولا اتفاق على أهداف ولا ثوابت يمكن الركون إليها .. وهم يعلمون علم اليقين أن كل هؤلاء المتحاورين لا يمثلون شعب السودان وأن نتائج حوارهم لن تحقق المأمول حتي لو حدثت معجزة واتفقوا .!!
غدا ان شاء الله نواصل
حاشية :استمعت مرارا لرائعة عبد الرحمن الريح التي يغنيها ميرغني المأمون واحمد حسن جمعة وشدني جمال التصوير ورقة المعاني :
ياجميل المنظر كيف كيف أذمك
سيبني في هجراني وبالعلي ما يهمك
خالي قلبك دايما وفاضي فكرك وهمك
المدام المسكر والعسل من فمك
محمد أحمد مبروك