محمد احمد مبروك يكتب: أسرار مستشفى الخرطوم
سطور ملونة
أسرار مستشفى الخرطوم
أكوام من القمامة وقطعان من القطط تجوس فيها ، وروائح كريهة . أكداس من البشر يفرشون البروش والأبسطة في ظلال الأشجار وممرات المستشفى وردهات العنابر ، يأكلون ويشربون ويثرثرون في ضجيج هائل بينهم الباعة الجائلون يعرضون كل شيء ، ويساومون في سوق يفور بالصياح والمنازعات .
تركنا كل ذلك ودخلنا مع د. أحمد عبد العزيز عليه الرحمة والرضوان وجلسنا معه في مكتبه نسجل أفكاره وطموحاته لحل مشكلات مستشفى الخرطوم التعليمي أكبر مستشفيات السودان .
الامر لديه كان مرتبا في اولويات ومراحل :
* أول مشكلة سنحلها مشكلة الصرف الصحي
ثم صيانة المباني .
* ثم توفير المعدات والأجهزة الطبية التشخيصية والعلاجية اللازمة .
* ثم تأهيل غرف العمليات والعناية المكثفة .
* ثم توفير الأدوية .
* وقبل ذلك نبدأ بإخلاء المستشفى من حشود المواطنين الذين تعوق كثافة وجودهم العمل ويتسببون بنسبة كبيرة في اتساخ المستشفى .
* وسنبدأ فورا بأعمال النظافة والتجميل متزامنة مع تاهيل شبكة الصرف الصحى وصيانة المباني .
قلنا له هذا يتطلب أموالا ضخمة فكيف ستوفرونها .
قال :
* أولا : سنكون لجنة تطوير مستشفى الخرطوم وانتم في الصحافة عضو فيها !!!
وسيكون من واجبات هذه اللجنة الإسهام في توفير المال اللازم وإشراك القطاع الخاص ورجال الاعمال في هذا الواجب الوطني .
* ثانيا سنغلق أبواب المستشفى بصرامة ، ونمتع الدخول الا في وقت محدد للزوار ، وسنفرض عليهم رسم دخول لنحقق فائدتين : الاولى تحقيق الجو الملائم للعلاج والراحة للمرضى وتيسير النظافة ، والثاني تحقيق عائد يسهم في حل مشكلات الصيانة .
* الجانب الثاني هو إلزام الدولة بتوفير ميزانية مقدرة .
* الأمر الثالث وهو الأهم حسن ترشيد هذه الموارد ، والرقابة الصارمة في الصرف وعدم تبديدها .
* اما الدواء فتعال معي !!
خرجنا معه وركبنا سيارته فذهبنا إلى صيدلية كمبال العريقة . فطلب من الصيدلي علبة بنادول فناوله إياها وسأله عن ثمنها فأخبره أنها بعشرين قرشا . سأله ثانية : اعطني عشر حبات باراسيتامول فناوله الصيدلي مظروف ورق به الحبوب وأخبره أنه بخمسة قروش . (هذه القصة عمرها قريب من نصف قرن فربما كانت الأرقام مختلفة لكنها كانت ربع القيمة .)
سأله : ما هو الفرق في التركيبة الدوائية والفاعلية بين الحبات العشر في هذه وفي تلك فقال الصيدلي : ليس هناك فرق إطلاقا فالمادة الفعالة هي باراسيتامول 500 مليجرام في كليهما .
خرج بعد أن دفع القيمة . وعندما ركبنا السيارة فتح صندوق البندول وأفرغ محتوياته قائلا :
هذه ورقة الخصائص وطريقة الإستعمال ورقة فاخرة مطبوعة بالألوان . وهذا الصندوق الجميل المطبوع طباعة ملونة . وهذا التغليف لكل اربع حبات على حدة . كل هذه تكاليف إضافية تمثل أضعاف قيمة الدواء الحقيقية ، بينما القليل جدا من الأدوية يحتاج إلى ذلك . لكن هذه أعمال تحميها شركات كبيرة في الطباعة والتغليف وصناعة الورق وتحقق منها أرباحا ضخمة . اننا سنحضر كل الأدوية التي تتحمل في أوعية كبيرة وبراميل حفظ الأدوية ونصرفها لمرضانا في مظاريف بحيث نحول الفرق إلى مزيد من الأدوية !!
اتصل ليل الرجل بنهاره بحيث انك إذا حضرت السادسة صباحا تجد سيارته المرسيدس وعليك ان تبحث بحثا مضنيا لتجده . فهو حينا في العيادة يفحص المرضى ، وحينا معهم يطوف العنابر ، وحينا في غرف العمليات يجري جراحات معقدة ، وحينا مع المقاولين والبنائين والنقاشين يتابع الصيانة ، وحينا مع عمال النظافة في الممرات والحمامات يراقب دقة النظافة ، وحينا في المعامل ، وحينا مع لجنة تطوير المستشفى التي تشرفت بعضويتها ، وحينا يطارد المسئولين في وزارة المالية ووزارة الصحة والامدادات الطبية لتوفير المكونات المطلوبة .
وكما يحدث في الأفلام التي تزاد سرعة تشغيلها اكتست الحوائط الخربة المشوهة بسطح أبيض صقيل ، ولمعت الممرات والردهات والعنابر ، وهدأت الحركة في المستشفى إلا من حركة الأطباء والممرضين وترولى خدمات الطعام وغيار الجروح .
الساحات التي كانت تعمرها البروش وجماهير الزوار أكتست بنجيلة خضراء ، حفتها الأزاهير والورود .
سيارات كبيرة نقلت صناديق محكمة الى المستشفى حوت أحدث المعدات والأجهزة الطبية (في العالم) . معدات التشخيص والمعامل ، ومعدات وأجهزة الجراحة .
الرجل كان يعرف بدقة كيف تعمل المستشفيات في بريطانيا التي كانت قبلة العلاج في الخارج ، قبل أن تنهض الدول العربية كلها . فأهل مستشفى الخرطوم على هذا النحو ، وأصبح قادرا على علاج اعقد الحالات بنفس المستوى الأوروبي ، لا سيما وان المستشفى يضم كوكبة من أفضل الأطباء في العالم ، وكادرا مساعدا رفيعا في كل التخصصات .
إلا أن الرجل الكبير هيأ المستشفى لأكبر من ذلك حيث أن تلف صمامات القلب كان يعالج جراحيا ، ولم تكن البدائل الصناعية للصمامات قد ابتكرت في العالم ، فأجرى د. أحمد عبد العزيز عمليات القلب المفتوح في مستشفى الخرطوم بنجاح كامل لعلاج الصمامات التالفة جراحيا . وكانت أول عمليات من هذا النوع في الشرق الأوسط والعالم العربي ولم تسبقه إلا جنوب أفريقيا .
لكنه لم يقف هنا .. وحتى لا أطيل عليك أكثر نقفز فوق المراحل ونتخطى التفاصيل فقد أنشأ الوحدات المساعدة في العلاج والتحاليل وأنشأ (مستشفى العلاج بالذرة) وأكمل المستشفى الجنوبي ليكون (خمس نجوم) .
إنتقل د. أحمد عبد العزيز معتمدا للشؤون الصحية بولاية الخرطوم وترك خلفه مستشفى من أفضل مستشفيات العالم الثالث وكادرا ونظاما أداريا رفيعا كانوا هم أهم عناصر نجاحه .
لا ننادي بإحياء ذكراه فإنه مذكور عند ربه بجلائل الأعمال لكن ننادي باستلهام التجربة واستنهاض الهمة ووضع رجال مثله في مثل هذه المواضع .
سلام عليك صديقي العزيز المستر أحمد وأسال الله أن تتنزل عليك الرحمة ويحفك الرضوان .
محمد أحمد مبروك