محمد احمد عبدالقادر يكتب: رجال من الساحل (٢)..كابتن عابدون:العابد التقى و الكابتن النكتة

محمد احمد عبدالقادر يكتب: رجال من الساحل (٢)..كابتن عابدون:العابد التقى و الكابتن النكتة
لتدركوا مكانة الرجل ببورسودان … قبل ان يأتى إليها كان لاعبا بنادى المريخ العاصمى … وبعد ان أتى اليها كان مديرا عاما للخطوط البحرية السودانية . و كان رئيسا لنادى حى العرب … عندما أقدم أستاذنا الكبير الراحل
احمد بابكر المهدى على إصدار صحفية من بورسودان . كان الكابتن محمد عابدون على رئيسا لمجلس ادارتها … و كان هذا مدخل علاقتى به… كان يترأس الإجتماعات التحضرية الأولى و يديرها بكل حكنة و حزم … ما ان
ينتهى الاجتماع حتى يثير حالة من المرح بالنكات التى يحكيها … سريعا ذابت و زالت المسافات التي وضعتها بينى و بينه… اطلق على لقب المواطن و صار يخصنى ببعض النكات ( الليله عندى ليك واحده رهيبه ) ( تعال أسمع دى جديده لنج) … كنت أسعد بذلك و مع مرور
الزمن بدأت أشعر أحيانا بشئ من الإستياء… إلى متى اظل متلقيا فقط لنكات عابدون. دون أن يفتح الله لى يوما بنكتة واحدة احكيها له … قدراتى فى (التنكيت) صفرية و علاقتى بالنكات فقط الإستماع و الضحك لاغير
* جئت إلى بورسودان مرافقا للصحفى الكبير عمر اسماعيل فى زيارة للخطوط البحرية السودانية… رتب لنا الاستاذ أحمد بابكر المهدى أول و اميز مدير للاعلام بالشركة و نائبه الاستاذ هاشم بابكر زيارة إلى مصيف
اركويت … تحركنا عصر يوم ( الخميس الخامس من شهر خمسه سنة خمسه و تسعين ) نحن الأربعة بسيارة يقودها شاب لطيف إسمه سراج دليل… لاحقا عرفت أنه الشقيق الأصغر للكاتب الصحفى محمود دليل الذى كتب مقالات
رائعة عن بورسودان بصورة عامة وعن ديم جابر بصفة خاصة … كتابات محمود هى التى جعلت من ديم جابر أكثر احياء بورسودان حظا فى الكتابة عنه .
* وصلنا اركويت قبيل المغرب … كان الجو يميل إلى الحار ثم صار حارا و ما لبث طويلا حتى صار حارا جدا ( سخانه تلحم ) … فى ظلام دامس و سكون تمام يعم أرجاء المكان جلسنا امام الاستراحة ( فى عشرة ونسه )
و العرق يتصبب منا … فى ذلك الجو الحار المظلم الساكن و بشكل عفوى قلت نكته … ( اتخلعت ) عندما اطلق هاشم بابكر ضحكة بددت ذلك السكون و تردد صداها في ارجاء المكان …قلت فى نفسى (بس خلاص هذه التى كنت اريدها لعابدون) .
* قيل لنا ان الحرارة الشديدة باركويت فى تلك الليلة تحدث مرة فى مثل هذا اليوم من كل عام … هذا اليوم هو الذى زرت فيه اركويت للمرة الأولى (شفتو الحظ دا كيف) … لم يتثنى لى التحقق من صحة ما اقيل و لكنى
متأكد تماما بأنى بت فى اركويت تلك الليلة و لم أستطع النوم بارتياح من شدة ( السخانه) … كنا مضطرين للمغادرة قبل ان يعود الجو إلى وضعه الطبيعى لارتباطنا بدعوة إفطار قدمها لنا محافظ سنكات الاستاذ محمد
إدريس برق على شرف زيارة الاستاذ عمر اسماعيل … الدعوة كانت بمنزل المحافظ و لم تكن باستراحة كبار الزوار التى حدث ان أقام بها و كتب عنها اخونا الصحفى إسماعيل آدم.
* شخصيا كنت (مستعجل) العودة إلى بورتسودان حتى احكى تلك النكتة لعابدون . بعد ان قمت بعدة بروفات لها و ادخلت عليها بعض التحسينات … عندما سمعها عابدون و انفجر ضاحكا ظننت ان الذى حكى النكتة هو الفاضل سعيد او جابر سعيد … للذين لا يعرفون جابر سعيد هو
اهم كوميديان عرفته بورسودان . و أظن أن شرق السودان لم يعرف كوميديان أهم منه … بعد وفاته كتبت عنه بناءا على طلب من الأخ محمد طاهر ايلا الذى كان يحبه جدا و لم يسمع بخبر و فاته …عندما اخبرته ظهرت على وجهه علامات الحزن و هو يقول ( بالله لازم تكتب
عنو ) … جابر سعيد الذى أسعد أهل بور سودان بنكاته هو نفسه من ضربنى ( كف ) لا اعرف لها مثيل على الإطلاق … كانت ( كف صديقة ) كانت بالخطأ و لم تكن مقصودة .
* الكابتن محمد عابدون على رجل معلق قلبه بالمساجد … هو من عُمارها بنفسه و ماله … عادى جدا و لايام عديدة يؤدى كل فرض بمسجد مختلف من مساجد المدينة… أحد جيرانه قال (سنين و نحن نصلى مع
عابدون فى المسجد لم أراه قط يصلى فى الصف الثانى) … عابدون الذى يسكن ترانسيت يمكن ان تراه فى الصف الاول فى صلاة الصبح بمسجد فى سلالاب … اشك ان يقيم مسجد ختمة للقرآن وعابدون غائب عنها …عابدون
واحد من اكبر الداعمين للاحتفال بختم القران فى مساجد المدينة… كان يجدد فرش مسجد بور سودان الكبير وهو بحالة جيدة ليتم توزيع الفرش القديم على مساجد الاحياء الطرفية .
* الكابتن محمد عابدون على رجل كرمه حاتمى … يستمتع باكرام المساكين … سلسلة المأدبات لا تنقطع عن داره العامرة بترانسيت … مأدبات لبسطاء المدنية و هذه تكون يومية خلال شهر رمضان … أربعة (صوانى) من
الحجم الكبير مكدسة بما لذا و طاب من أصناف الطعام . اما العصائر و المشروبات فحدث و لا حرج … مأدبات وجهاء المدينة عادة ما تكون عقب صلاة الجمعة … لاحظته يكون بنفسه فى خدمة ضيوفه من البسطاء . اما الوجهاء يكون هناك شخص آخر يتولى خدمتهم .
* لن أنسى ابدا تلك المأدبة في تلك الجمعة … العدد كان محدودا جدا … ٥ أشخاص فقط… جميعنا نحمل خير الأسماء ما عدا واحد . ( محمد صالح على مدير هيئة الموانئ و محمد جعفر طلّاب والد مصطفى جوفر صاحب شركة المشروبات الغازية ببورسودان ) و رجل وقور
وجهه صبوح علامات الصلاح عليه بادية … عرفت أنه أحد أئمة المساجد و شيوخ المدينة. لكنى لم أراه من قبل … المأدبات الخماسية ذات الإسم الواحد تكررت معى مرة أخرى عندما زار بورسودان الفنان و المناضل الارترى
الكبير إدريس محمد على مشاركا في العيد الثلاثين للقوات البحرية السودانية و دعوته للعشاء بفندق سماراماز . جميعهم كانوا يحملون إسم إدريس الا انا (ادريس محمد على و إدريس الامير و إدريس منتاى و إدريس دويت) .
* مأدبة عابدون تلك حولها ذلك الشيخ إلى جلسة للتدارس فى أمور الدين … طريقة كلامه جاذبة ، صوته جميل . الآيات و الاحاديث تنساب منه انسيابا له حلاوة و طلاوة … قبيل المغرب اعتدل فى جلسته و هو يقول
(عسى أن تكون ساعة إجابة) و انخرط فى موجة من الأدعية بصيغ لم أسمعها من قبل . و هو فى حالة من الخشوع و التضرع و البكاء لم أشهد لها مثيل … عشنا
لحظات إيمانية لا يمكن نسيانها … بعد ان تفرقنا علمت من السيد /محمد صالح على ان ذلك الشيخ كان موظف عادى معهم بالميناء . حدثت مشكلة أدخل السجن بسببها ليخرج منه بذلك العلم و ذلك الورع .
* المأدبات بمنزل الكابتن عابدون تقام حتى فى غيابه …مازلت اذكر يوم ان اتصل بي الأخ العزيز الاعلامى عبدالمنعم بشير و قال لى ( فى جماعة حا يجو يتغدو فى بيت الكابتن و قال أنت لازم تكون معانا فى
استقبالم) … مدراء محطات الخطوط الجوية السودانية بالخارج عقدوا مؤتمرا لهم ببورسودان . عابدون اقامة لهم دعوة بمنزله و هو بالخارج .
* الوقوف بعرفة ذلك العام كان بالجمعة … عصرا بالسوق الكبير التقيت عابدون فقال لى ( اكيد صايم . لو ما عندك حاجه عاوزك تمشى معاى مشوار ) … تحركنا لتقف العربة بسوق الخضار و بعد دقائق عاد عابدون و معه صبية
صغار يحملون أكياس بها كمية من الفواكه …تحركنا لتقف العربة بالقرب من المسجد الكبير حيث تتواجد اعداد من المساكين … وزعنا عليهم تلك الفواكه و سعدنا بالسعادة التى قابلوا بها الأمر… ثم تحركنا إلى داخل
مستشفى بورسودان و قمنا بزيارة جميع المرضى بعنابر الطابق الأرضي… و نحن نسير نحو السيارة قال عابدون ( بعد دا نمشى المقابر عسى ربنا يكرمنا نحضر لينا جنازة ) و ذكر الحديث الشريف الذى فيه ( من منكم اصبح
صائما قال ابوبكر انا يا رسول الله و من منكم عاد مريضا قال ابوبكر انا يا رسول الله و من منكم شيع جنازة قال ابوبكر انا يا رسول الله و من منكم اطعم مسكينا قال أبوبكر أنا يا رسول الله…. الخ الحديث) … و بالفعل
اكرمنا الله بتشيع جنازتين . قبل ان نكمل دفن الأولى جاءت الثانية و حضرنا دفنها … و من هناك الى منزل عابدون و تناول الفطور ( الما خمج ) مع شلة من المساكين .
* الكابتن محمد عابدون على كان شديد الحرص على الطهارة .ما انتقض منه الوضوء إلا و توضى .نسال الله له الرحمة والمغفرة .
و الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
و إلى حديث عن رجل اخر من الساحل بإذن الله .
عبدالرحمن بالعيد … سأغنى له كما غنى الخليل .