لوبس: عبقرية بوتين الشريرة.. هكذا حقق زعيم الكرملين معجزة جيوسياسية
بوتين أصبح الأب الروحي لنمط دولي غير ليبرالي، والمعلم الملهم للعديد من القادة الشعبويين الغربيين.
مع أن الناتج المحلي الإجمالي الروسي لا يكاد يتجاوز مثيله في إسبانيا، فقد حقق زعيم الكرملين فلاديمير بوتين معجزة جيوسياسية، أثبت بها نفسه وأنه سيد رقعة الشطرنج الأوروبية وربما العالمية، فكيف تمكن من القيام بهذا العمل الفذ؟ وفيم تكمن عبقريته السياسية والجيوسياسية؟
من هذه الأسئلة انطلق فنسنت جوفير في عموده بمجلة “لوبس” (L’Obs) الفرنسية، ليكشف سر المقدم السابق في المخابرات السوفياتية فلاديمير بوتين الذي ابتكر مفاهيم وإستراتيجيات جديدة، واستطاع بعبقريته استعادة فاعلية روسيا والكرملين بعد أن كانت أضحوكة العالم عندما تولى السلطة في عام 2000.
ويتذكر جوفير أن الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن عندما كان يهدد بغزو العراق في فبراير/شباط 2003 لم يكن في وسع بوتين معارضة هذا العدوان غير المبرر، ولم يستخدم حق النقض الروسي، رغم اعتباره أن هذه الحرب ستكون جنونية، وأن الأمم المتحدة لا ينبغي أن تعطيها الضوء الأخضر، وفضّل حينئذ “الاختباء” خلف الرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي انتفض وحده ضد التهديد الأميركي.
ويرى الكاتب أن رئيس الكرملين كان وقتذاك ضعيفا في مواجهة البيت الأبيض، ويخشى الانتقام، لأن بلده لا يزال لاعبا دوليا من الدرجة الثانية فقط، ولكن بعد 19 عاما ها قد تغير كل شيء ويا له من تغيير -كما يقول الكاتب- فها هو فلاديمير بوتين عرّاب الساحة الدولية الذي يتفاوض وجها لوجه مع الرئيس الأميركي جو بايدن بشأن مستقبل القارة الأوروبية، كما كان يفعل الرؤساء السوفياتيون في الأيام الخالية للحرب الباردة، عندما كان الاتحاد السوفياتي يشارك أميركا في إدارة العالم، فكيف حدث ذلك؟
ديمقراطية بوتين
في السياسة الداخلية، اخترع بوتين ما سماه جوفير “الديمقراطية غير الليبرالية”، وهي -كما يفسرها- نظام يبدو ديمقراطيا، يسيطر عليه رجل قوي ويبدو أن للمعارضة فيه مكانها.
ففي روسيا يحق للمعارضة من “داخل النظام”، كما الحال في الحزب الشيوعي، أن تنتقد الحكومة ومبادراتها بشكل علني وعنيف، ولكن في وقت التصويت يجب أن تستسلم أمام إملاءات الكرملين.
أما ما يسمى بالمعارضة من “خارج النظام” أو المعارضة الحقيقية، مثل حركة أليكسي نافالني، فهي مشوهة السمعة وممنوعة من التعبير عن رأيها ومن المشاركة في الانتخابات.
وبفضل هذا النظام – وفق الكاتب- استطاع بوتين البقاء في السلطة إلى أجل غير مسمى وأثرى مساعدوه بشكل فظيع، دون التفات إلى سيادة القانون والحريات الفردية، إلى درجة أن الرئيس الروسي اليوم أقدم قادة العالم الكبار، بل إنه كذلك، ونشر هذا النوع من نظام الحكم في أنحاء العالم، وخلق بذلك مجموعة من المعجبين، خاصة في أوروبا الوسطى.
وأصبح بوتين الأب الروحي لنمط دولي غير ليبرالي، والمعلم الملهم للعديد من القادة الشعبويين الغربيين، بدءًا بمارين لوبان، زعيمة حزب التجمع الفرنسي اليميني المتطرف، وليس انتهاء بالمرشح المثير للجدل في فرنسا إريك زمور.
ولإعداد بلاده للمواجهة مع الغرب، نجح سيد الكرملين -كما يرى جوفير- في نشر أيديولوجية بين الشعب الروسي، قائمة على رفض قيم الغرب “المنحرفة” كالزواج المثلي، وعلى إعادة كتابة تاريخ الاتحاد السوفياتي، بدءًا من الستالينية والحرب العالمية الثانية التي أصبحت تسمى “الحرب الوطنية العظمى”.
لإعداد بلاده للمواجهة مع الغرب، نجح سيد الكرملين في نشر أيديولوجية بين الشعب الروسي، قائمة على رفض قيم الغرب “المنحرفة” كالزواج المثلي، وعلى إعادة كتابة تاريخ الاتحاد السوفياتي، بدءًا من الستالينية والحرب العالمية الثانية التي أصبحت تسمى “الحرب الوطنية العظمى”.
التاريخ والغاز والمخابرات
ومن أجل توسيع نفوذ موسكو في العالم، استخدم بوتين موارد بلاده التقليدية، كالنفط والغاز اللذين ارتفعت أسعارهما ارتفاعا كبيرا بالمصادفة، وجعل من توصيلهما إلى أوروبا مصدرا لا ينضب للابتزاز.
كما استخدم الأجهزة السرّية التي ينشرها بإتقان ودون ضبط للنفس، مثل استيلائه على القرم في عام 2014، وهو عمل أُعدّ في سرية تامة ونفذته بنجاح المخابرات العسكرية الروسية عن طريق “الرجال الخضر الصغار”، وكذلك التدخل في سوريا عام 2015 للدفاع عن نظام بشار الأسد، كما يقول الكاتب.
وتعدّ عمليات مجموعة مرتزقة فاغنر في أفريقيا وأماكن أخرى -حسب الكاتب- جزءًا من إستراتيجية التهديد هذه، فضلا عن الاغتيالات المذهلة أو محاولات قتل رجال الاستخبارات الروسية السابقين من أمثال ألكسندر ليتفينينكو وسيرغي سكريبال، وكذلك عمل المتسللين وعملاء الأجهزة الأمنية في الحملة الرئاسية الأميركية لعام 2016، مما أعطى دفعة كبيرة للشعبوي دونالد ترامب.
إضافة إلى كل ذلك، كرّس بوتين جزءا كبيرا من ناتج بلاده المحلي الإجمالي لسباق التسلح، ليكون المهندسون الروس أول من طوّر صاروخا أسرع من الصوت قادرا على مناورة نظام الدفاع الصاروخي الأميركي العملاق والمكلف للغاية الذي يحمي القارة الأميركية ويمنح واشنطن ميزة جيوستراتيجية خاصة، كما طوّروا أنظمة قادرة على تدمير الأقمار الصناعية من الأرض، فضلا عن الترسانة النووية الروسية القادرة على منافسة القوة النارية للولايات المتحدة.
هذا الوضع الروسي الذي بدأ منذ سنوات -كما يرى جوفير- هو الذي يسمح اليوم لبوتين أن يقف من موقف قوي، ضد واشنطن وحلف شمال الأطلسي، وأن يحتجز أوكرانيا كرهينة لتركيع الغربيين الذين يفتقرون بشدة إلى هذا النوع من القادة اللامعين والوحشيين الذين يمكنهم إخراج أوروبا والعالم من الهوّة التي وقع فيها رجل المخابرات السوفياتية السابق وخرج منها ببراعة.