الأخبارتقارير

كيف جعلت الرأسمالية “العمل” بديلا عن “الحب”؟

كيف جعلت الرأسمالية “العمل” بديلا عن “الحب”؟

مريم عادل

“إنهم يزعمون أن الشهيد وحده أو المجنون وحده الذي يستطيع أن يحب في عالم اليوم”

(إريك فروم، فن الحب)

خلال العقود الثلاثة الماضية خرجت اليابان على العالم بظاهرتين لا يمكن فصلهما عن بعضهما، هما: “كاروشي”(Karōshi) الذي يعني “الموت من كثرة العمل”، و”سيكوسو شيناي شوكوجن” (sekkusu shinai shokogun) وهي تعني “متلازمة العزوبة” التي تشير إلى مستوى غير مسبوق من الفتور العاطفي والجنسي. اليابان التي تحجز لنفسها مكانا فسيحا أعلى الهرم الرأسمالي باقتصاد هو الثالث عالميا، كما تُعدّ جسر وصل رئيسيا في التجارة العالمية وأحد أهم الوسطاء التجاريين التي يعتمد ازدهار الكثير من الاقتصادات الأخرى عليها، تعاني من موت أبنائها -بالوفاة أو الانتحار- من الإفراط في العمل، بالإضافة إلى عزوفهم عن العلاقات العاطفية والزواج، وبالتالي انخفاض كبير في عدد المواليد، بات يهدد ليس اقتصادها فحسب وإنما الاقتصاد العالمي.(1)(2)

“الرجال العشبيون” هو الاسم الذي أطلقته اليابانيات على الرجال الذين فقدوا أي رغبة في الجنس الآخر، والذين يعتمدون في التغلب على شعورهم بالوحدة والخواء العاطفي على أشياء متعددة منها على سبيل المثال ألعاب فيديو تحاكي العلاقة الحميمة. في الوقت نفسه، من المعروف عالميا أن اليابان هي رمز ثقافة التفاني في العمل، “الياباني يرى أنه لا يعمل بما فيه الكفاية”، إذ تقدر الشركات ومؤسسات العمل هؤلاء المتفانين إلى حد أن الشخص الطبيعي الذي يستنفد أيام إجازته المسموحة له أصلا يُنظر إليه على أنه شخص “ضعيف”.(3)

كما يُرمق أولئك الذين يرتاحون في الإجازات بنظرات استياء من قِبل زملائهم في العمل. إلى حد أن الكاتب “إدوارد لوتواك” يقول في كتاب “ثقافة الاستهلاك” إن الأميركيين يعملون خلال العام عدد ساعات أكثر من أي شعب آخر على وجه الأرض فيما عدا اليابانيين. الرواية الرسمية اليابانية تقول بأن عدد ضحايا الكاروشي ما بين 400 لـ 1000 سنويا، لكنّ عددا من البيانات الرسمية يقول إن العمل الزائد قد يكون سببا من أسباب الانتحار والذي وصلت عدد حالاته في 2013 إلى ما يزيد على 2000 حالة انتحار.(4)(5)

“ما نراه فقط هو قمة جبل الثلج”
(شنجرو واكي، البروفيسير بجامعة ريوكوكو اليابانية)

إدوارد هوبر، أناس في الشمس 1960. يشعر الأفراد في لوحات هوبر بالاغتراب في المدينة وقيمها الجديدة، في الغالب لا يعرفون معنى للحياة بعيدا عن العمل، يصور هوبر شخصياته في هذه اللوحة يجلسون بطريقة رسمية حتى أثناء وقت الراحة أو الاسترخاء تحت أشعة الشمس، أجسادهم مشدودة ويجلسون بطريقة مستقيمة ومتصلبة، ربما يفكرون في ترك أنفسهم للاسترخاء قليلا لكنهم غير قادرين على الهرب خارج أخلاق البذلات الرسمية.  (مواقع التواصل)

يرى البروفيسور الياباني “شنجرو واكي” أن الكثير من الناس يموتون أو يمرضون بسبب العمل الزائد ولا يمكن للإحصاءات أن تثبت سوى القليل. وبالرغم من ذلك فإن ما تقوله الإحصاءات يبدو مخيفا، إذ إن أكثر من نصف اليابانيين غير متزوجين، وربعهم تقريبا لا يحبذون العلاقات العاطفية، كما أن عددا هائلا منهم ليسوا منجذبين لإقامة علاقات جنسية وينظرون إليها نظرة ازدراء. كما تزداد بشكل ثابت سنويا نسبة الرجال والنساء غير المرتبطين منذ عام 1990.(6)

تتدخل الكثير من العوامل ذات الخصوصية الثقافية فيما وصل إليه النموذج الياباني، خصوصا في العادات والأعراف التي تخص المرأة في الثقافة اليابانية، في روايتها “ذهول ورعدة” التي تدور أحداثها في إحدى الشركات الكبرى اليابانية، تتعرض الروائية إيميلي نوثومب لحياة الناس في اليابان من خلال تجربتها الشخصية وخصوصا المرأة، تقول: “إذا كان للمرء أن يعجب باليابانية -وهو حتما سيعجب بها- فلأنها لا تنتحر.. فبقاؤها على قيد الحياة يُعدّ فعل مقاومة يتسم بشجاعة مترفعة وجليلة”.(7)

لكن وبالرغم من وجود بعض العوامل ذات الخصوصية الثقافية التي قد تتميز بها اليابان عن باقي الدول الرأسمالية الكبرى في العالم، فإن روح الرأسمالية تعمل بالطريقة نفسها في كل مكان. فمنذ عام 1945 تبنّى بقية العالم قيم الغرب وأفكاره وأولوياته.(8)

“اليابان هي بلد يعرف ماذا يعني أن ينهار الإنسان”
(إيميلي نوثومب، رواية ذهول ورعدة)

روح الرأسمالية.. تبشر بديانة “العمل”

في كتابه الشهير “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” يقول “ماكس فيبر” إن الأخلاق في المجتمع الحديث لا تشبه أي شيء قد مضى قبلها. لقد تفكك المعنى القديم للأخلاق التقليدية، وبالإضافة إلى ذلك فإن تعدد مجالات المعرفة وانتشارها وظهور تخصصات دقيقة في كل فرع من فروع العلم جعلت من الصعب جدا أو من المستحيل على أي شخص أن يعرفها ويكتشفها جميعا. في هذا العالم الذي لا يمكن استيعابه كليا، وإذ لا وجود لقيم مشتركة على المستوى العالمي، “فإن معظم الناس تشبّثوا بركنهم الخاص من العالم لا سيما وظيفتهم أو مهنتهم وتعاملوا مع العمل على أنه ديانة ما بعد دينية، أو “غاية مطلقة في حد ذاتها”. لذا، إذا كانت “الأخلاق” أو “الروح” الحديثة لها أساس مطلق ونهائي، فهو هذا العمل”.(9)

إن روح الرأسمالية كما يراها فيبر تمثّلت في رؤية الخير الأعظم في “صنع الكثير من المال”، هذه الأخلاق تؤكد القيم الاحترافية ضيقة الأفق التي انتشرت في المجتمعات الحديثة بين رجال الأعمال والموظفين ذوي الأجور المرتفعة. تقوم المجتمعات الرأسمالية بحسب “إريك فروم” على مبدأ الحرية السياسية من ناحية، والسوق من الناحية الأخرى باعتباره منظم العلاقات الاقتصادية وبالتالي فهو أيضا منظم العلاقات الاجتماعية. إن سوق السلع يتحكم فيه صاحب رأس المال، وهو الذي يحدد القيم التي بناء عليها يدفع للعاملين أجورهم. فإذا كانت هناك طاقة ومهارة إنسانيتان لا يوجد طلب عليهما في ظل شروط السوق الموجودة فلن يكون لهما قيمة مقايضة. لقد تحول الإنسان نفسه إلى سلعة تخضع لقانون العرض والطلب.(10)

عندما يتحول الإنسان إلى سلعة تصبح تجارب حياته هي رأس ماله الذي لا بد أن يستثمره بأفضل الطرق المربحة، ويكون هذا الأمر هو مقياس نجاحه الذي يمنح لحياته معنى. فإذا لم ينجح في استثمار نفسه فهو فاشل، إذ إن قيمته قد تلخصت في “قابليته للبيع” وليس في خصائصه الإنسانية كالحب والعقل أو في قدراته الفنية، لذلك، وكما يقول إريك فروم، فإن إحساسه بقيمته الخاصة يصبح معتمدا على عوامل خارجية التي هي نجاحه وحكم الآخرين عليه. وبالتالي فإنه عليه أن يكون على قدم المساواة مع القطيع وأن لا يختلف عنهم في الفكر أو المشاعر أو السلوك لكي يضمن أمانه الشخصي.(11)

لكن مع كل محاولة للاقتراب من الصف، يشعر المرء بوحدته تزداد “محاصرا بالشعور بالقلق والزعزعة والإثم، وهي مسائل تنجم دائما عندما لا يمكن التغلب على الانفصال”، لكن الحضارة الرأسمالية تقدم مسكنات لهذه الآلام كي لا يظل الناس على وعي شعوري بهذه الوحدة، أول هذه المسكنات وقبل كل شيء هو “الروتين الصارم للعمل”. يقول فروم: “يساعد هذا الروتين الآلي البيروقراطي الناس على أن يظلوا لا يعون أشد رغباتهم الإنسانية أساسية والاشتياق للتجاوز والاتحاد”. إن هذا الطابع الاجتماعي للإنسان الحديث يحوله إلى آلة، و”الآلات لا تستطيع أن تحب”.(12)

“كان موظفو يوميموطو كالأصفار لا قيمة لهم إلا خلف الأرقام الأخرى”
(إيميلي نوثومب، ذهول ورعدة)

كيف أصبح العمل أكثر سهولة من الحب؟

إن الإنسان العصري نادرا ما يتواصل في عمله مع المنتج الكامل، فهو مغترب عن عمله، يعمل مثل ترس في دائرة محكمة من الأتمتة، لا يوجد له دور في تخطيط سير العمل. كذلك فإن استهلاكنا متغرب تدفعنا إليه الإعلانات التي تصممها الشركات وليس نابعا من احتياجاتنا الحقيقية، يقول فروم: “يتجلى لا معنى واغتراب العمل في التوق إلى الكسل التام، إذ يكره الإنسان حياته العملية لأنها تشعره أنه سجين ومحتال. يصبح الكسل مثله الأعلى”. إن هذا الإنسان بالطبع خائف، بالإضافة إلى أن العزلة والانفصال ينتجان القلق، لكن نظام العمل في الشركات الكبرى في حد ذاته ينتج القلق، لا أحد يعرف إلى أين سيذهب به مساره المهني، هل سيعلو أم سيهبط، سيصعد مراتب السلم الاجتماعي أم سينحدر إلى الفقر، مثل هذا الإنسان يصعب عليه التفكير في خوض تجربة حب أو زواج قد تتطلب منه اجتهادا مضاعفا ليحافظ عليها. يكتب فروم:

“يصبح الإنسان في المجتمعات الصناعية الأكثر تطورا مغرما جدا بالأجهزة التقنية أكثر من غرامه بالبشر وعمليات الحياة. قد تصبح رياضة جديدة بالنسبة لكثير من الرجال أكثر جاذبية من المرأة. يستبدل الاهتمام بالحياة والعضوية بالتقنية واللاعضوية. وبناء عليه يصبح الإنسان لا مباليا بالحياة.. فالإنسان الذي تشيأ هو إنسان قلق، لا إيمان لديه، لا قناعة، وقليل القدرة على الحب”. في مقاله “الاستهلاك من أجل الحب” يرى إدوارد لوتواك أن معظم الأميركيين محرومون عاطفيا ويعانون من الفقر في علاقاتهم الأسرية، ما زال الأميركيون يتزوجون لكنه يراه زواجا هشا إن لم يكن محطما ويسبب الكثير من القلق. يعوض الأميركيون هذا الحرمان عن طريق الاستهلاك خصوصا للوجبات السريعة التي تعتبر وجبات عاطفية من الطعام.(13)(14)

لكن المصدر الرئيسي للإشباع العاطفي الذي تقدمه الرأسمالية بديلا عن الحب كما يراه لوتواك هو “العمل”. يتم استغلال هذا الإشباع للقضاء على أي عجز عاطفي وكذلك استغلاله لبذل المزيد من العمل، يكتب: “هو علاج غريب للروابط العائلية الميئوس منها، لأن العمل في حد ذاته مدمر للروابط العائلية”. إن ما يجعل العمل حلا أكثر سهولة من الحب هو أن الحب “نشاط”، ليس نشاطا بمعنى فعل، لكن المقصود أنه نشاط باطني “الاستخدام المثمر لقوى الإنسان”، وليس شعورا سلبيا، إنه الوقوف وليس الوقوع وهو “عطاء أساسا وليس تلقيًّا فقط”، وكما أسلفنا فإن إنسان الآلة يعاني من الكسل الداخلي ولا يرغب في فعل شيء. والشخص الكسول يعجز عن ربط نفسه بشكل فعال بالمحبوب. لذلك يطرح فروم في نهاية كتابه “فن الحب” سؤالا مهما:

“إذا كان كل تنظيمنا الاجتماعي والاقتصادي قائما على بحث كل إنسان عن فائدته، فكيف يمكن للإنسان أن يؤدي عمله، كيف يمكن للإنسان أن يتصرف داخل إطار المجتمع القائم، وفي الوقت نفسه يمارس الحب؟”(15)

إن ما هو مُغرٍ للإنسان المعاصر بشأن العمل هو أن العمل يعني التعامل “بطريقة احترافية متفق عليها ومتوقعة”، فمهما حدث من أشياء قد تثير الجنون يتم التعامل معها بهدوء. ففي العمل “لن تكون نفسك” ولا من حولك هم أنفسهم، مما يعني وجود بعض الزيف وانعدام الأمانة، لكن هذا الوضع يلهينا عن التعامل المرهق مع آلامنا الداخلية. كذلك في العمل يتلقى الشخص تدريبا قبل البدء، لكن الحب هو تجربة شخصية لا يمكن أن تكون لدى كل إنسان إلا لنفسه وبنفسه، مما يجعل الحب غير متوقع ومحفوفا بالمخاطر، وإنسان اليوم لا يعرف الصبر ويريد نتائج سريعة لكل شيء، فلا يصبر على الحب. مهما كانت مهام العمل معقدة فلن تكون بمستوى الجهد المبذول في بناء علاقة حب حقيقية. يقول فروم:

“إن الناس القادرين على الحب في ظل النظام الحالي هم بالضرورة استثناءات، الحب بالضرورة ظاهرة جدية في الوقت الحالي، لا لأن الكثير من المشاغل لن تسمح بموقف الحب، بل لأن روح مجتمع السلع الشره المتمركز في الإنتاج هو على نحو لا يجعل سوى اللاممتثل وحده هو القادر على الدفاع عن نفسه بنجاح ضده”.(16)(17)

المصدر : الجزيرة

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى