“كرة القدم في الشمس والظل”.. قراءة أدبية تلتقط أداء القدم بالقلم
المؤلف إدواردو غاليانو لا يؤرخ لكرة القدم فحسب وإنما يؤرخ بها؛ إذ يتوقف في بداية أغلب الفصول عند عام معين موصول بهذه اللعبة مثل عام تقام فيه بطولة الكأس العالمية، ليورد أحداثا أخرى مهمة، سياسية كانت أو ثقافية أو غيرها.
مع تصاعد أحداث مباريات كأس العالم، تستحوذ كرة القدم على اهتمام عال، لا تكاد تُستثنى منه فئة، وإن اختلفوا في توصيف الحدث الكروي العالمي ورؤيتهم له.
الكتّاب والأدباء جزء من هذا المشهد، وكغيرهم من الناس منهم من وقف منها وقفة متحفظة، ومنهم من راقته اللعبة الماتعة وأجواؤها الحماسية وكان جزءا من عالمها، مشجعا، أو إداريا، أو ربما ممارسا لها، ومن أشهر أولئك أديب نوبل الفرنسي الروائي ألبير كامو (1913-1960).
وهناك روائي آخر تمنى ممارستها لكن قدراته لم تكن على مستوى أمانيه؛ إنه الأوروغواياني إدواردو غاليانو، الروائي والقاص والصحفي، حيث أراد أن يكون لاعبا لكرة القدم، فالأطفال في بلاده يفيضون شغفا بها، لكن الأمر ليس أمنيات وحسب، يقول غاليانو “لقد رغبت مثل جميع الناس في أوروغواي أن أصبح لاعبا لكرة القدم. وقد كنت ألعب جيدا، كنت رائعا، ولكن في الليل فقط، في أثناء نومي، أما في النهار فأنا أسوأ قدم متخشبة شهدتها ملاعب الأحياء في بلادي”.
لكن وإن لم يفلح غاليانو في أن يكون اللاعب الذي يتمنى، فقد قدم أحد أجمل الكتب في كرة القدم؛ “كرة القدم في الشمس والظل”، والذي يحاول فيه النظر بعين الأديب للعبة اجتاح شغفها العالم، ويبدو أنه شغف نسبته أعلى في أميركا اللاتينية، حيث هي طقس مقدس في حياة الصغار، يقول في إهدائه “ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺼﻔﺤﺎﺕ ﻣﻬﺪﺍﺓ ﺇﻟﻰ أﻭﻟﺌﻚ ﺍﻷﻃﻔﺎﻝ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﺍﻟﺘﻘﻴﺖ ﺑﻬﻢ ﺫﺍﺕ ﻣﺮﺓ، ﻗﺒﻞ ﺳﻨﻮﺍﺕ ﻋﺪﻳﺪﺓ ﻓﻲ ﻛﺎﻟﻴﺎ ﺩﻱ ﻻﻛﻮﺳﺘﺎ، ﻛﺎﻧﻮﺍ ﻋﺎﺋﺪﻳﻦ ﻣﻦ ﻟﻌﺐ كرﺓ ﺍﻟﻘﺪﻡ ﻳﻐﻨﻮﻥ (ﺭﺑﺤﻨﺎ ﺃﻭ ﺧﺴﺮﻧﺎ.. ﻟﻦ ﺗﺘﺒﺪﻝ ﻣﺘﻌﺘﻨﺎ. ﻣﺘﻌﺘﻨﺎ ﺗﺒﻘﻰ ﻛﻤﺎ ﻫﻲ.. ﺳﻮﺍﺀ ﺧﺴﺮﻧﺎ أﻡ ﺭﺑﺤﻨﺎ)”.
نظرة مغايرة
ينظر إدواردو غاليانو في كتابه نظرة مختلفة مغايرة للمعتاد لبعض الأشياء التي تكوّن مع بعضها عالم كرة القدم، فحارس المرمى على سبيل المثال لا يُنظر إليه كونه اللاعب الذي يسمح له بإمساك الكرة باليد في منطقة محددة من الملعب، ويرتدي زيّا مخالفا لبقية الفريق، وإنما هو “محكوم عليه بمشاهدة المباراة من بعيد، ينتظر وحيدا إعدامه رميا بالرصاص بين العوارض الثلاث”.
ولعل هذا فعل الأدب والفلسفة والتأمل، واقتناص الصورة التي يحسن توظيفها أدبيا، وهكذا يفعل غاليانو مع اللاعب والحكم والمشجع، فيصف المشجع “نادرا ما يقول المشجّع “اليوم سيلعب ناديَّ…”. إنّه عادة ما يقول “اليوم سنلعب نحن”. وهذا اللاعب الذي يصطلح على تسميته “اللاعب رقم 12″ يعرف جيّدا أنّه هو من ينفخ رياح الحماسة التي تدفع الكرة حين تغفو، مثلما يعرف اللاعبون الـ11 الآخرون جيّدا”.
ولا يقتصر الأمر على البشر فقط، لكنه يصف حتى الجمادات، فهو ينظر للملعب وللملابس، حتى الكرة لم تسلم من نظرته الخاصة “للكرة نذالتها أيضا، فهي لا تدخل أحيانا إلى المرمى؛ لأنّها تبدّل رأيها وهي في الجو، وتنحرف عن مسارها. ذلك لأنها ساخرة جدا، فهي لا تطيق أن يعاملوها ركلا بالأقدام، ولا أن يضربوها انتقاما. إنها تطالب بأن يداعبوها برقة، أن يقبّلوها، أن يسمحوا لها بالنوم على الصدور أو الأقدام”.
شغفان
شغف غاليانو بالكرة واضح في كتابه “كرة القدم بين الشمس والظل”، لكنه ليس الشغف الوحيد؛ غاليانو كاتب ذو اهتمامات متعددة ومختلفة، وله شغف بالتأريخ، بثه في بعض كتبه ومنها “مرايا”، وكتاب “أبناء الزمن”، والذي يضم مجموعة من القصص، كل قصة تستلهم واقعة أو حدثا وقع في يوم معين من العام، وكذلك بدا شغفه بالتاريخ واضحا في كتابه الأهم “الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية.. 5 قرون من نهب القارة”، الذي يتناول فيه قضايا اقتصادية واجتماعية تمس حياة سكان القارة، والذي صدر عام 1970، ويعد من أكثر الكتب مبيعا وإثارة للجدل في مجمل تاريخ أميركا اللاتينية.
وحتى في ذلك الكتاب، يؤرخ غاليانو لمحبوبته (كرة القدم) ذاكرا تواريخ قديمة قبل آلاف السنوات للصينيين وقدماء المصريين، ويتنقل نقلات تاريخية ومكانية، مثبتا تواريخ مهمة، إذ يقول إن “كرة القدم في شكلها الحديث تتكون من اتفاق جنتلمان بين 12 ناديا إنجليزيا توصلوا إليه في خريف العام 1863 في إحدى حانات لندن، وقد أُقرت القواعد التي أقرتها جامعة كامبردج عام 1846”.
لكن غاليانو لا يؤرخ لهذه اللعبة فحسب وإنما يؤرخ بها؛ إذ يتوقف في بداية أغلب الفصول عند عام معين موصول بهذه اللعبة مثل عام تقام فيه الكأس العالمية، ليورد أحداثا أخرى مهمة، سياسية كانت أو ثقافية أو غيرها، فمثلا يتوقف عند مونديال جرى قبل أكثر من 7 عقود، ويقول “مونديال 1950.. ميلاد التلفزيون الملون، والحاسبات تحقق ألف عملية جمع في الثانية. مارلين مونرو تطل من هوليود. فيلم للويس بونويل، (فيلم) “المنسيون” يفرض نفسه في مهرجان كان، نيرودا (شاعر شيلي) ينشر النشيد الشامل، وتظهر الطبعة الأولى من رواية الحياة القصيرة لأونيتي”، ثم ينصرف بعد ذلك للحديث عن المونديال.
أكثر من وصف
يغوص غاليانو في عوالم كرة القدم وما تحدثه من تغيرات مجتمعية في حياة اللاعبين وفي حياة الشعوب الشغوفة بها؛ ففي مقطع عن رياضي القرن البرازيلي على سبيل المثال يصور مراوغته وأداءه في الملعب وانبهار الناس به، قائلا “عندما ينطلق بيليه راكضا، يخترق الخصوم وكأنه سكين. وعندما يتوقف يضيع الخصوم في المتاهات التي ترسمها قدماه. وحين يقفز، يعلو في الهواء كما لو أن الهواء سُلّم. وعندما يسدد ضربة حرة يرغب الخصوم الذين يشكلون الحاجز بالوقوف بالعكس، وجوههم إلى المرمى، كي لا يضيعوا رؤية الهدف الذي سيحققه”.
وتمتلئ عبارات غاليانو بمثل هذا الوصف الإبداعي، حيث يلتقط أداء القدم بالقلم، لكن الأمر أكثر من وصف للكرة إذ ينتقل مباشرة للمجتمع؛ فقره وغناه، عنصريته وسلطته، إلى آخر المشاكل المجتمعية في أميركا اللاتينية في ذلك الوقت، فيكمل وصفه لبيليه “لقد ولد في بيت فقير، في قرية نائية، ووصل إلى ذرى السلطة والثروة، حيث يُحظر على الزنوج الدخول”.
ويتابع الحديث عن بيليه قائلا “لم يكن يهدي خارج الملاعب لحظة من وقته لأحد، ولم تكن تسقط من جيبه قطعة نقود واحدة. ولكن نحن الذين حالفنا الحظ برؤيته وهو يلعب، تلقينا هدايا من جمال نادر: لحظات من تلك الجديرة بالخلود والتي تتيح لنا الإيمان بأن الخلود موجود”.
الفقر، والعنصرية، والفساد من أكثر السمات المجتمعية التي ناقش الكتاب ارتباطها بكرة القدم. فعن العنصرية يورد غاليانو أنه في العام 1921 وكأس أميركا على الأبواب، أصدر الرئيس البرازيلي في ذلك الوقت (إييتاسيو بيسوسا) مرسوم البياض، وأمر بعدم مشاركة أي لاعب غير أبيض اللون، لأسباب تتعلّق بـ”سمعة الوطن”. ومن المباريات الثلاث التي لعبها الفريق الأبيض، خسر اثنتين.
ويسرد المؤلف الكثير من الممارسات العنصرية والنظرة لغير الأبيض “كان من المستحيل في ذلك الوقت أن يكون لاعب كرة القدم البرازيلي أسود اللون، ومن الصعب أن يكون خلاسيا (مزيج من العرق الأبيض والأسود) وكان فريدينرتش يتأخر على الدوام في الدخول إلى أرض الملعب لأنه كان يبقى نصف ساعة في صالة الملابس وهو يكوي شعره الأجعد، واللاعب الخلاسي الوحيد في نادي فلومينسي كارلوس ألبيرتو كان يُبيّض وجهه بمسحوق”.
رغم المحبة
كرة القدم في كتاب غاليانو شيء آخر، أكبر من لعبة؛ تاريخ وسرد، التقاط ووصف، وطرفة تقابلها الدموع، الشغف والمحبة لم يمنعاه من التوقف عند ما هو سلبي في هذه اللعبة من فساد ومحاولات التوظيف السياسي والإلهاء أحيانا، لم يترك غاليانو ما سلطت عليه الشمس ضوءها من أمور الكرة ولا ما أخفته الظلال.
ورغم كل شيء ظل يثق في كرة القدم “مهما برمجها التكنوقراطيون، ومهما احتكرها الأقوياء، ستبقى كرة القدم ترغب في أن تكون فن الارتجال، فالمستحيل يقفز إلى الواجهة، حيث لا ينتظره أحد”.