عبدالسلام محمد خير يكتب: موسوعة أخرى فقدتها البلاد.. (بروفسور عبدالله حمدنا الله)

عبدالسلام محمد خير يكتب: موسوعة أخرى فقدتها البلاد.. (بروفسور عبدالله حمدنا الله)
فى مقام الوداع المر غالبا ما نميل للإعتذار كسلوى.. كأني كنت أعتذر له عن تقصيري وأنا أكتب عنه الأسبوع الماضى مستشهدا بأنموذجه فى تصور(هوية البلاد)-
أحدى عناوين إنشغاله الدائما بهموم الوطن،التعايش،التراضي، الآخر، وتأصيل
المعرفة..الإعتذار مستحق لتخلفي عن التواصل مع إنسان مستطاب الطلة واللهجة والمعلومة،ما أقعده عن
المحافل إلا المرض،وبرغمه ظللت أتصوره(حاضرا) فى أي سياق للتواصل وجبر الخاطر ورد الإعتبار والإستعصام
بالقيم،تلقاء مفهوم الهوية عنده،وقد أطلقه بقاعة الشارقة يوما:(نحن عرب وأفارقة وإسلاميون وإنسانيون)..عبارة
إنطلقت كالبشرى بينما لسان حال البلد يصدح(ليتنا وإن إختلفنا نظل إنسانيين)..هي الآن(وصية)..(أن نظل
إنسانيين)..نشهد أنه عمليا ظل كذلك، رحمه الله.
لقد أصبح ما قاله من قبيل
التوثيق(لإنسانيته)..دواخله عامرة بخير يتكشف مع رحيله الأربعاء الماضي من شهر حفى بسيرة سيد الخلق
منقذ(الإنسانية)..إن سيرة الإنسان حسن الإتباع لسلفه الصالح هي الأبقي..عمر ثان بدأ برحيله، متسربا للكون
بذات الخطى على الأرض، سلاما وسكينة وثقافة تثري الوجود ينثرها صامتا وهو يمشي على رجليه،وبها يترنم بالمعرفة من منتدى لآخر،يتراءى بين الحضور
برمزيته،واسطة عقد،وسطية مشتهاة،أنشودة للتراضي تظل منشودة..هكذا يبدو دائما- حاضرا وغائبا..عليه رحمة الله.
لا تعرف متى وكيف عرفته؟!..لست من جامعة أفريقيا العالمية بالخرطوم أو جامعة الملك فيصل بأنجمينا، ولا
شاركته تجلياته بجائزة الطيب صالح العالمية،ولا أنا من البشاقرة والتكينة وتلك الأرجاء المباركة..لا أعرف كيف عرفته وأدمنت جاذبية خطابه وتبسمه..المنتديات قبلته
وقبيلته،عرفته بقاعة الشارقة مرتع الجدل الذى يشتهيه مشبعا بطموحات التلاقى والتوافق والتراضي..نظمت الورشة(الشرق الأوسط)اللندنية بإشرافي والأستاذ كمال
حامد مندوبهم بالخرطوم، وتصدرها دكتور الجزولي دفع الله ،دكتور مدثر عبدالرحيم،دكتور عبدالله على
ابراهيم،دكتور صلاح محي الدين،وشخصه..أطياف من مدارس فكرية..الموضوع تفاكر فى الهوية لأغراض
مواكبة الأحداث السياسية بإسهام ثقافي متوازن، وبهدف النشر وقد فعلت مشكورة المؤسسة اللندنية وعلى أوسع نطاق مبرزة شهادته(أن نكون سودانيين وإنسانيين).
أي شىء هو(التراضي)غير أن نكون(إنسانيين) بدءا وفى كل حال، كيما نتوحد على تنوع..إنها وصية مثقف ظل قلبه على البلد،بل روحه وعقله وتبسمه وتواصله،
وعلم مبذول وكسب أكاديمي يوسم بالتميز..موسوعة فى الثقافة والمعرفة والأصول..هكذا تجلت لي معالم شخصيتة خلال تفاعله مع أهل الثقافة والصحافة
والدراسات العليا..كنت رافقته لسنوات وهو رئيس للجنة الاستشارية للبرامج الثقافية بالتلفزيون وقد أمها نسيج من رموز الثقافة والابداع إنتظموا فى حوارات نقدية
طابعها الدراية وسعة الصدر وجدية الرؤية ومراعاة الآخر..البروف مثال فى كل هذا وفى مسألة إحترام الزمن.
تتجلى فيه خاصية(مثقف موسوعة) حيثما حل،والدليل تسجيلاته للإذاعة ومشاركة سخية فى
الفضائيات ومحاورات صحفية موحية،وكلها ترشحه الآن وقد رحل لإعادة تلك الطلة المشوقة..من أبرز إسهاماته
رئاسة لجنة توثيق تاريخ الصحافة السودانية بمجلس الصحافة مع كوكبة من قيادات الصحف..إنتظم التوثيق
بحسن ترتيبه واشاراته الموسوعية اللماحة وهو يستدعي التجربة بكاملها من ذاكرته منذ صدور أول صحيفة..
ورشة لكل صحيفة(حزبية، مستقلة،ولائية، إقتصادية،رياضية، فنية،ناطقة بالإنجليزية، المجلات)بمشاركة أهل الشأن تبحرا فى التفاصيل،
الميلاد،التطور،التعثر والتوقف..إن هذا التوثيق النادر بإنتظار الطباعة ليكسب المجلس رهان الإنتساب لمجد الصحافة السودانية.
سانحة أخرى حفية جمعتني به..تذكرتها وأنا أتامل ما ورد عنه بالأسافير لدى رحيله،ليته كان قرأه..هذه
مشكلة،أن ننتظر الرحيل لنفي الراحل حقه..روايات مبهرة وشهادات باذخة تصنفه(ظاهرة نادرة،رقم
صب،كالنيل عطاء،فراغه لا يملؤه إلا هو،أثر طيب، كتب ومراجع وبحوث وإجتهادات،تلاميذ حملة درجات عليا يتصدرون المؤسسات،منهج أكاديمي صارم، منهج نقدي
ينفرد به- ذوقي نفسي إجتماعي،وأبناء نجباء بتخصصات علمية عالمية خارج البلاد)- هذا بعض ما ورد الحمد
لله..إستوقفتني الإشارة إلى من يفاخرون بمعرفته والإستشهاد بأقواله ليعلو شأنهم،كما هو حال المعجبين بالمشاهير،فكم من(عقاديين) ومن يأسرهم (إبن خلدون)..يبدو أني كنت منهم يوم إلتمست منه كتابة
تقديم لكتابي(تأملات فى الناس والحياة).
قرأ مسودة الكتاب فى يومين وأتحفني بتقديم إرتفع بشأن ما كتبت، وفاجأني بما وددت أن أستحقه:(أشفقت على نفسي من كتابة مقدمة لهذا السفر،وخشيت أن
يوضع أسلوبي فى مقارنة مع أسلوب عبدالسلام، وهي مقارنة أعلم أنها مرجوحة،فقد إمتلك الكاتب أداة فنية وقدرة أسلوبية إستطاع بها أن يعبر عن أدق الأفكار فى
يسر وسهولة وبأسلوب أدبي أقرب فى بعض جوانبه إلى معالجة القصة،وظني أنه سيبلغ فيها شأنا لو عالجها)- هكذا، رحمه الله..مضى يحسن الظن بي فيقول:(والكاتب
شديد الإحتفاء بالرموز السودانية، خاصة أهل العلم والثقافة، وأتاح له موقعه في التلفزيون أن ينشىء معهم علاقات ودودة وحميمة، وأن يعرف من ذات أنفسهم ما
لايعرفه كثير من الناس..وإهتمامه بالرموز جزء من إهتمامه ببناء قيم المجتمع،فالمجتمع الذى لا يحفظ لقممه مكانهم مجتمع جاحد، إذ لكل صاحب عطاء نصيب
من المحبة والتقدير والعرفان)- سبحان الله، كتب هذا تقديما لكتاب عام 2006 وكأني أقرأه لأول مرة وأنا أختم هذا المقال..رحمه الله،رمزا و(صاحب عطاء له نصيب من المحبة والتقدير والعرفان) .
وددت فعلا أن أكون عند حسن الظن لأبره بأفضل من هذا الذى أكتبه فى غمرة الأحزان..إستعصمت بالتضرع لله تعالى أن يرحمه، بقدر ما أعطى لأفريقيا ولبلده عن
تجرد ودراية ويقين وخطاب يجبر الخاطر،يسمو بالمقاصد،ويبقى للذكرى والتاريخ..حمدا لله وشكرا أن قيض لبلاد السودان أمثاله،اللهم زد وبارك.. و(إنا لله وإناإ ليه راجعون).
عبدالسلام محمد خير